* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فإن المقصود منه تذكير من لم يزعه الشيب والإسلام إذ قد علم كل الناس إنهما وازعان، وأما لأن حاله كحال ضده كقولك للتلميذ بين يديك إذا لم يتقن الفهم يا فتى فإنك تطلب إقباله وهو حاضر لأنه كالغائب، وأما لقصد الزيادة من الفعل نحو ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)) فطلب منهم الإيمان بعد أن وصفهم به لقصد الزيادة والتملي منه وأما لاختلال الفعل حتى كان غير مجد لفاعله مثل قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يصلي ينقر نقر الديك ((صل فإنك لم تصل)) وهذا كثير في كلامهم، وقد تتعلق النكتة بالمتكلم ليريك أنه عالم بالخبر كقولك لصاحبك سهرت البارحة بالنادي وقول عنترة
إن كنت أزمعت الفراق فإنما
زُمَّت ركابكم بليل مظلم
وعلامة هذا أن يكون الكلام دالاً على أن المخاطب لا يجهل الخبر فإنك إذا حدثته عن أحواله لا تقصد أن تعلمه بما هو معلوم لديه.
وللكلام في قوة الإثبات والنفي مراتب وضروب بحسب قد الحاجة في إقناع المخاطب، فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم ولا تردد له فيه فلا حاجة إلى تقوية الكلام، وإن كان المخاطب متردداً في الحكم فالحسن أن يقوى له الكلام بمؤكد لئلا يصير تردده إنكاراً كما قال الله تعالى: ((فقالوا إنا إليكم مرسلون)) لأنهم كذبوا الرسولين الأولين فلما عززا بثالث كان القوم بحيث يترددون في صدقه.
وإن المخاطب منكرا وجب توكيد الخبر على قدر الإنكار نحو ((إني لكم نذير مبين)) ونحو ((إنا إليكم مرسلون)) ونحو ((ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون)) ويسمى الضرب الأول ابتدائيا. والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.
وأدوات التوكيد إن وأن ولام الابتداء، ولام القسم، والقسم، والحروف الزائدة، وحروف التنبيه، وضمير الفصل ولن النافية هذه في الأسماء وقد وإما الشرطية ونون التوكيد في الأفعال وقد ينزل المخاطب المستحق لأحد هذه الأضرب منزلة صاحب غيره منها لنكتة فيسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر قال طرفة:
لعمرك إن الموت ما اخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد
فأتى بثلاث مؤكدات القسم وأن ولام الابتداء لقصد الرد على من كان حاله في لومه إياه على الكرم وتناول اللذات حال من ينكر إدراك الموت إياه مع أن مجيء الموت ولو بعد طول العمر أمر معلوم لكل أحد.
وقد يجيء التوكيد بإن لمجرد الاهتمام بالخبر دون إنكار كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا)) ومن ذلك أن يكون في الخبر غرابة كالمثل ((إن البغاث بأرضنا يستنسر)) أو تهويل نحو ((ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)) لأن شأن هذين النوعين أن ينكرهما السامع فيؤكد له من قبل حصول الإنكار احتياطاً تنزيلاً له منزلة المنكر.
والإسناد نوعان حقيقة عقلية ومجاز عقلي، فالحقيقة العقلية إسناد الشيء إلى شيء هو من الأمور الثابتة له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً الإثبات كقول الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كر الغداة ومر العشي
لأن الشاعر جاهلي وظاهر كلامه يشعر بأنه يعتقد أن مرور الزمان هو سبب الشيب إذا لم ينصب قرينه على أنه يعلم أن ذلك ليس سبباً للشيب، والنفي كقوله تعالى: ((وما كانوا مهتدين)) والمجاز العقلي إسناد الشيء إلى غير ما هو له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً لملابسة بين المسند والمسند إليه، ومعنى الملابسة المناسبة والعلاقة بينهما، فأشهر ذلك أن يسند الفعل إلى المتسبب فيه كقوله أم زَرْع ((أناس من حلي أذني وملا من شحم عضدي)) فإن وزجها لما اشترى لها النواس لتلبسه في أذنيها فهو قد أناس أذنيها وهذا قريب من الحقيقة ولما أفاض عليها الخير والراحة حتى سمنت فقد تسبب في ملإٍ عضديها بالشحم، وهذا مجاز عقلي لملابسة السببية وهناك ملابسات كثيرة نحو ((عيشة راضية)) مع أن الراضي صاحب العيشة، ونحو نهر جار مع أن الجاري ماؤه وانبت الربيع العشب لأن الربيع زمن الإنبات، يوماً يجعل الولدان شيباً، ((يوماً عبوساً قمطريراً)) والنفي كقوله تعالى: ((فما ربحت تجارتهم)) فإن نفي الربح لم يتعارف إسناده للتجارة بل إنما يثبت الربح وينفي عن التاجر، وهو محتاج إلى قرينه لفظية أو معنوية ليفارق كلام البليغ كلام الغالط والهاذي والغبي.
عوارض أحوال المسند إليه
¥