عبر عن صنع الجبة والقميص بالطبخ لوقوعه عوضاً عن الطبخ، وقولي ولو تقديراً لإدخال المشاكلة التي لم يجتمع فيها لفظان ولكن معنى أحد اللفظين حاضر في الذهن فيؤتى باللفظ المناسب للفظ المقدر نحو قول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلهم
أني بنيت الجار قبل المنزل
ومنه تأكيد الشيء بما يشبه ضده حتى يخيل للسامع أن الكلام الأول قد انتقض فإذا تأمله وجده زاد تأكدا كقول النابغة
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب ([62] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn62))
ومنه براعة الاستهلال وهي اشتمال أول الكلام على ما يشير إلى المقصود منه كقوله في طالع قصيدة هناء:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وأما المحسنات اللفظية فمنها التجنيس ويسمى الجناس وهو تشابه اللفظين في النطق مع اختلاف المعنى وهو قديم في كلام العرب كما في المثل العربي القديم ((هذا جناي وخياره فيه، إذ كل جان يده إلى فيه)) وفي القرآن منه كثير وقول أبي تمام:
ما مات من كرم الزمان فإنه
يحيى لدى يحيى ابن عبد الله
وقول الحريري:
سم سمة تحمد آثارها
وأشكر لمن أعطى ولو سمسمة
والمكر مهمى استطعت لأتاته
لتقتني السودد والمكرمة
فإن كان التشابه في غالب حروف اللفظين فهو غير تام كقوله تعالى: ((وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)).
ومنه القلب ويسمى الطرد والعكس وهو أن يكون الكلام إذا ابتدأته من حرفه الأخير وذهب كذلك إلى حرفه الأول يحصل منه عين ما يحصل من ابتدائه كقول القاضي أحمد الأرّجاني (نسبة إلى أَرَّجان بفتح الهمزة وتشديد الراء المفتوحة كورة من كور الأهواز ويجوز تخفيف رائها)
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
فهذا البيت إذا ابتدأته من حرفه الآخر إلى حرفه الأول كان مثل ابتدائه من حرفه الأول.
ومنها الاقتباس والتضمين فالاقتباس هو أخذ شيء من القرآن أو كلام النبوة والتضمين أخذ شيء من الشعر المشهور ومزجه مع الكلام نظما أو نثراً ولو مع اختلاف الغرضين ولو مع تغيير يسير فمن الاقتباس قول الحريري في المقامة الثانية ((فلم يكن إلا كلمح البصر أو هر أقرب حتى أنشد فأغرب))، ومن التضمين قول ضياء الدين موسى من ملهم الكاتب في هجاء الرشيد عمر الفوي وكان أصلع وأسنانه بارزة
أقول لمعشر جهلوا وغضوا
من الشيخ الرشيد وأنكروه
هو ابن جلا وطلاع الثنايا
متى يضع العمامة تعرفوه
ويجوز فيهما التغيير اليسير كما في المصراع الأخير المتقدم وكقول أبي القاسم ابن الحسن الكاتبي:
إن كنت أزمعت على هجرنا
من غير ما جُرم فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله ونعم الوكيل
وهذا آخر ما أردت إملاءه في علم البلاغة، وأرى فيه للقانع من هذا العلم مقنعة وبلاغة، وكان تمامه في منتهى شهر رمضان من عام ثلاثة وأربعين وثلاثمائة وألف بمرسى جرَّاح بالمرسى كتبه مؤلفه محمد الطاهر ابن عاشور.
([1]) وبيان ذلك أن اشتمال الكلام على الكيفيات التي تعارفها خاصة فصحاء العرب فكان كلامهم أوقع من كلام عامتهم وأنفذ في نفوس السامعين وعلى ما شابه تلك الكيفيات مما أبتكره المزاولون لكلامهم وأدبهم وعلى ما يحسن ذلك مما وقع في كلام العرب وابتكره المولعون بلسانهم يعد بلوغاً من المتكلم إلى منتهى الإفصاح عن مراده.
([2]) مثال ذلك ما حكاه الجاحظ أنه سأل رجلاً دخيلاً في العربية عن صبي أخذته الشرطة في سرقة أتهم بها قائلاً في: أي شيء أسلموا هذا الصبي؟ فأجاب ((في أصحاب سند نعال)) أي في أصحاب النعال السندية، وقال مرة يشتم غلاماً للجاحظ ((الناس ويلك أنت حياء كلهم أقل)) يريد أنت أقل الناس حياء واسم هذا الدخيل نفيس بن بريهة، وكما يريد أحد أن يقول باع فرسين فيقول بيع فرس وفرس لأنه لا يعرف كيف يصوغ ماضي باع ولا يعرف صيغة المثنى ولا الإعراب.
([3]) المراد بموقع اللفظ المعنوي أن معناه الموضوع له في اللغة هو هو بحيث لا تجد له خصوصية في اختلاف معناه حتى يصير من مسائل علم المعاني بل يوجد موقع يكون فيه لوقوع ذلك اللفظ أحسن من وقوع غيره فإنه لو قال ((أما والذي أبكى وأرشد)) لكان وقوع لفظ أرشد أقل من وقوع لفظ أضحك وكذلك لفظ أبكى لو وقع مع قوله والذي أمات لم يكن له من الحسن ما كان له في موضعه الأول.
¥