خُطباً أخرى وأشعاراً أخرى، كما ذكرت بعض المصادر (30).
ومن هنا جاءت بادرتُنا، في التفكير في وضع عنوان لخطبة طارق، هذه، حتى نُميزها من غيرها من الخطب المنتظرة من ناحية، وحتى نبيّن بأنَّ العنوان هو ذاكرة النص ورأسه المفكر من ناحية ثانية، ونرى بأنَّ العنوان المناسب لخطبة طارق، هو: "خطبة الفتح" على غرار "خطبة الوداع" للرسول الأعظم محمد (().
2 ـ نوع الخطبة:
تعدُّ خطبة طارق بن زياد هذه من عيون الأدب العربي، وهي من أروع الخطب الحربية التي عرفها التاريخ، وهي من النوع الحماسي والحض على الجهاد.
3 ـ هدف الخطبة:
هدف الخطبة الأساسي هو تحريض الجُنْد على القتال وبعث الحماس في نفوسهم، وحثهم على الصمود والثبات لمواجهة العدو والانتصار عليه.
4 ـ أقسام الخطبة ومضمونِها:
تخلو هذه الخطبة من أيّ شكل من أشكال المقدمات، إذ يتناول طارق الموضوع مباشرة، ويشتمل على ثلاثة مقاطع متتالية تكوّن فيما بينها وحدة في الموضوع (الحث والتحريض على الجهاد).
المقطع الأول: الترهيب: ويبدأ بـ (أيها الناس، أين المفر؟ .. ) وينتهي بـ (إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي).
وقد وجّه فيه طارق الخطاب إلى أصحابه، ورسم لهم صورة عامة للظروف التي هم فيها، مما يفرض عليهم الصمود والثبات لمجابَهة العدو، وقد اعتمد في ذلك على المقابلة بين وضعيتهم ووضعية أعدائهم، فالمسلمون محاطون بالبحر الذي خلفوه وراءهم، وبالعدو الذي يزحف نحوهم، وقد شبّههم في وضعهم هذا بالأيتام الضائعين في مأدبَة اللئام، لا سند لهم ولا معين إلا سيوفهم، ولا قوت إلاَّ ما يستخلصونه بأنفسهم من أعدائهم الذين يتوافرون على جيشٍ جرّارٍ، وأسلحةٍ كثيرةٍ، وأقواتٍ موفورةٍ، ثم حذّرهم من خطورة النتائج، إنْ طالت بهم الأيام وهم على هذا الوضع، ولم ينفّذوا ماهم بصدده من القضاء على عدوهم، الذي يمكن أن ينقلب خوفُه منهم جرأة عليهم (31)، أي: أنَّه جعل جنوده في موقفٍ حرج لا مجال فيه إلاّ للموت أو الاستماتة في القتال، وجعل نفسه مثالاً حيّاً يتقدم صفوف المجاهدين (32).
ولقد لجأ في خطبته إلى العقل أوّلاً دون العاطفة عندما وضع جنوده في الإطار الحقيقي بعد إحراق سفنه (33)، وحين يسيطر العقل على العاطفة في الخطبة تغيبُ الصور عن الساحة، ويتوقف الخيال عن التّدخل ... فحديث العقل هامسٌ هادئ، أمَّا حديث العاطفة فحديث قارعٌ ضاجٌّ يستثيرُ النّوازع البدائية في النفوس كما تستثيرها الطبول بأصواتِها القوية المدوية (34).
المقطع الثاني: التّرغيب: ويبدأ بـ (واعلموا أنّكم إن صبرتم على الأشق قليلاً)، وينتهي بـ (والله تعالى ولي إنْجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين).
وبعد أنْ فصّل في جانب الترهيب، عمد إلى الترغيب، ليبث في نفوس جنُودِه مزيداً من الحماس، فحثهم على الصمود والجهاد، وأوصاهم بالصبر على مشاق الحرب مدة قصيرة ليستمتعوا بثمار النصر زمناً طويلاً، ولينالوا رضى الخليفة (الوليد بن عبد الملك) الذي اختارهم من أبطال العرب والمسلمين لفتح تلك الجزيرة، رغبة منه في أنْ يكون حظه منهم ثواب الله عزّ وجلّ على إعلاء كلمته وإظهار دينه في هذه الأرض، وهو يعدهم بأنَّ ما يُحْرِزُونَهُ من غنائم في الحرب حق خالص لهم لا يشاركهم فيه أحدٌ، لا الخليفة، ولا غيرُه ممّن لم يحارب معهم، ثم ذكرّهم بأنّ الله سبحانه وتعالى سيكون في عونِهم على هذا العمل الصالح الذي سيكسبهم ذكراً حسناً في الدارين.
أمّا الفقرة التي وضعناها بين حاضنتين (في نص الخطبة)، فإنَّنا نرتاب في نسبتها إلى طارق، ونعتقد أنّها من وضع بعض المستعربين (المستشرقين) الحاقدين على الإسلام والمسلمين وتدبيجهم، لأن ما ورد فيها لا يتلاءم والروح الإسلامية العالية التي يتميز بها الفاتحون الأوائل من أمثال طارق بن زياد، فالفارق واضح بين لغة الخطبة كلها، ولغة هذه الفقرة التي يُغري طارق فيها جنوده بفتيات الأندلس وبالحور من بنات اليونان (ولسنا ندري لماذا اليونان؟) اللائي يرْفلن باللآلئ والمرجان، وهن بنات الملوك والأمراء (كما زعموا). فهي فقرة شاذة طغى عليها السجع طغياناً لم نَجِدْه في سائر الخطبة من ناحية وانحَطّت لُغتُها في الوقت نفسه إلى دركٍ لا يمكن أنْ نظنَّ معه أبداً أنّها وبقية أجزاء الخطبة من عمل واحدٍ. إلى جانب ما جاء فيها من التناقض في المعاني، وفي الأسلوب، ومن مخالفتها
¥