[من دروس التاريخ الفكري لبغداد في القرن الثاني]
ـ[محمد السعيدي]ــــــــ[20 - 12 - 06, 12:22 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
[من دروس التاريخ الفكري لبغداد في القرن الثاني]
وقفة في التعامل مع المخالف *
لو أن أحدا من إخواننا المعنيين بالتأريخ للحضارة الإسلامية أخذ على عاتقه التأريخ الفكري لبغداد في الحقبة ما بين حكم هرون الرشيد حتى نهاية أيام الخليفة المتوكل لقدم لنا خدمة عظيمة في محاولتنا الاستفادة العملية من تجارب أمتنا الرائدة.
وذلك أن بغداد في تلك الفترة كانت من أكبر عواصم العالم من حيث تعداد السكان فقد رووا أن نفوس أهلها تقارب ألفي ألف نفس (مليونان) وهو تعداد بالنظر إلى العواصم القديمة يكاد يكون خياليا , والعجب ليس في ضخامة هذا الرقم وحسب بل في كونه يمثل مجتمعا متباينا في أفكاره وأصوله , فقد عاش في تلك الحقبة أهل الحديث وأهل الرأي والشيعة والراوندية والمعتزلة والمرجئة والقدرية بل يمكن القول أن أكثر الفرق التي ذكرها من كتبوا في الملل والنحل من أمثال عبد القاهر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق والرازي في كتابه المحصل
كانت ممثلة في بغداد في تلك الحقبة مضافا إليهم الفلاسفة والنصارى.
وحاولت بعض الآراء التغلب بسطوة السلطان كمذهب المعتزلة في عهود المأمون والمعتصم والواثق إلا أن هذا الفرض للفكر الاعتزالي لم يقدم له أية مكاسب على عكس المذهب المستهدف من الحملة الاعتزالية وهو مذهب أهل الحديث.
وهذه تجربة لنا ولا تأخذ منزلتها لكونها واقعة تاريخية وحسب بل مكانتها العظيمة آتية من منزلة من صنعوا هذه التجربة في تراثنا الإسلامي كالإمامين الشافعي وأحمد ويحي بن معين والبخاري ومسلم وأبي داود وغيرهم من أعلام أعلام السلف رحمهم الله تعالى.
وهي تاريخ نأنس به حينما نقرأ أو نسمع أفكارا لم تكن مألوفة لنا في مجتمعنا الذي عاش سنوات رائعة لا نسمع فيها إلا ما نحب بعضها جديد وحسب وبعضها الآخر جديد وبعيد, فنقول في أنفسنا ماذا ستصنع هذه الأفكار التي يفرضها على أسماعنا إعلام القرية الواحدة أكثر من أنها سترى النهاية نفسها التي لقيتها تلك المذاهب البائدة في بغداد وخرج الحق من ذلك الصراع أصعب مراسا وأقدر على كسب المعركة.
أسوق هذا الكلام لأقول لكل من يتشنج أو يحتدم غضبا عند سماع رأي يسوءه إربع على نفسك ولا تجعل غضبك لما ترى أنه الحق ينسيك أن للحق سلطانا سوف يغلب لا محالة واجعل همك أن تتحرى ألا تكون يوما ما مع الكوكب الآفل وإن كان جماله يأخذ بالألباب وتمتلئ منه الأعين.
وأسوقه لنفكر منذ اليوم في أسلوب أمثل للتعامل مع الأفكار التي لا يمكن بحال أن نمنعها عن أسماعنا أو نمنع أسماعنا منها و لا أن نمنعها عن أسماع أبنائنا بل ولا عن أذهانهم فليس نجنب ذكرها خوف الفتنة مجديا في يوم يمكن القول أن تجنب ذكرها أصبح هو الفتنة , نعم يمكن السيطرة بطريقة أو بأخرى على إعلامنا وصحافتنا ولكن هل ما زال إعلامنا وصحافتنا هما إعلامنا وصحافتنا بمعنى أنهما هما مصدرنا الوحيد لتلقي الأفكار والآداب كما كنا قبل سنوات.
إن التأخر في دراسة أسلوب أمثل معتبر شرعا للتعامل مع الأفكار الطارئة سوف يؤدي حتما إلى كارثة فكرية وأخلاقية لا يحتملها مجتمعنا الذي نفخر ببقائه حتى اليوم متميزا بتمسكه وتماسكه عن سائر المجتمعات الإسلامية التي أودت بتميزها كوارث فكرية حلت بها قبل سنين طويلة.
وأقول أسلوب معتبر شرعا لأنني أعزو وبقوة ما تميز به مجتمعنا من التمسك والتماسك إلى كون الالتفات إلى ما يقوله الشرع ظل هو المعول عليه في التعامل مع كل جديد من مبتكرات أو مفتكرات , وسواء أصبنا أم أخطأنا في الحكم برأي الشرع فيما حل بنا من نوازل إلا أن مرجعية الشريعة في حياتنا بقيت عاصما لهذا المجتمع من الانزلاق نحو الذوبان في الاستغراب ذلك الداء الذي نحاول اليوم تجنبه ويحاول غيرنا جاهدا الانفكاك منه وشتان بين المنزلتين.