بل سمعت ما هو أعجب وأغرب، فقد حدثني أستاذ جليل بأنه قد جرى في مجلس عميد في إحدى جامعاتنا الحديث في الموضوع، فتطرق إلى ذكر كتاب ((المعجم الجغرافي)) فاتخذ أحد الحاضرين ممن يحلو له (الاصطياد في الماء العكر) من ذكر اسم الكتاب ذريعةٌ لتناوله وتناول مؤلفه بما عرف عنه من خلق.
كما زُجَّ باسم أخي الأستاذ عبدالله بن خميس أيضاً في كلام منسوب للدكتور الصليبي، نشرته جريدة ((القبس)) الكويتية – في العدد 4489 الصادر بتاريخ 18/ 2/1405هـ (12/ 11/1984م).
كان الدكتور الصليبي قد دُعِي لحضور المؤتمر الثاني لتاريخ الجزيرة العربية الذي عقدته (جامعة الملك سعود) في الرياض عام 1399هـ (1979م) بصفته (رئيس إدارة الآثار والتاريخ في الجامعة الأمريكية) فذكر أنه اجتمع أثناء انعقاد ذلك المؤتمر بالأستاذ عبدالله، الذي قدم له نسخة من كتاب ((معجم اليمامة)) حين جرى البحث في أصل كلمة (حضرموت) وأنه وجد في ((المعجم)) اسم (خضرمات) وهو جمع مؤنث سالم الاسم (خضرمة) وحاول الربط بين (خضرمات) و (حضرموت). وأنه لما عاد إلى بيروت بدأ في البحث عن أسماء الأماكن العربية، فاتضحت له الصلة بين كثير من الأسماء الواردة في التوراة وبين أسماء بعض المواضع في منطقة عسير، وما يليها شرقاً وغرباً، فاتجه إلى دراسة تاريخ التوراة، وخرج من ذلك بكتابه عن المواضع الواردة فيها.
لا مندوحة إذَنْ – والأمر كما أوضحت – من الكتابة عما انطبع في الذهن إثر قراءة ما وقع في يدي مما نشر في الصحف حول آراء هذا الرجل الذي لا أدري بما أصفه، ولا أدري ما هي البواعث لإثارة أفكاره التي أقلَّ ما توصف به أنها مخالفة لجميع الحقائق العلمية الثابتة منذ أقدم العصور، مما أتت به الكتب السماوية، أو توصل إليه العلماء من حقائق تاريخية.
وإنسان يأتي برأي يدرك مصادمته للحق الثابت ليس من المستطاع إقناعه، ولا شك أن الدكتور الصليبي ليس من السذاجة وعدم المعرفة بالدرجة التي تجعل من السهل تبصيره بالحقائق، بالاستدلال بالنصوص والآراء الصحيحة ولهذا فإيراد النصوص والاستدلال بكلام متقدمي العلماء لا يُجدي نفعاً مع امرئ يدرك أنه أتي بما يصادم جميع ذلك عن عَمْدٍ وسبق وإصرار، وأنه بلغ من العلم – فيما أتي به – ما لم تبلغه الأوائل – بل والأواخر.
ولكنني لا أعتقد أن الغرور يبلغ بباحث يتولى مركزاً علمياً بارزاً ويحمل من الدرجات العلمية في هذا العصر أعلاها – يبلغ به حالةً تدفعه إلى المكابرة ورفض الحقائق البدهية التي أعتقد أنه لم ينتبه إليها أثناء بحثه لموضوعه، ثم خروجه بما خرج به من نتيجة باطلة، جاءت في رأيي بدون إدراك لتلك الحقائق.
الحقيقة الأولى: مما لا شك فيه لدى الباحثين أن التوراة التي بين أيدي الناس اليوم، ليست الكتاب الذي أنزل على موسى – عليه السلام – وإنما ألفها الأحبار وجمعوها في فترات مختلفة، كما يعترف بذلك علماء اليهود أنفسهم كالعالم الصهيوني (سيجموند فرويد) صاحب كتاب ((موسى والتوحيد)) وغيره من العلماء من أهل الملل الأخرى، بل إن هناك من العلماء من يرى بأن من بين أسفار التوراة ما هو عربي الأصل ضمه الأحبار إليها، مثل ((سفر أيوب)) الذي أوضح بعض العلماء المعاصرين أنه نقل إلى العبرية من اللغة العربية كالمستشرق الانجليزي (مرجليوث) – أنظر كتاب ((العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 1/ 252 – وفي الأسفار الأخرى كثير مما أدخله الأحبار من عادات الشعوب وأخبارهم ومن ذلك أسماء مواطنهم، بسبب المخالطة والاتصال أثناء الأسفار.
ولهذا فإن استناد الدكتور الصليبي على التوراة المعروفة الآن استناداً على غير أساس.
ثم الاستدلال بما فيها من الأسماء مع ما هو معروف من أسماء المواضع تتشابه وتتكرر مع اختلاف مواقعها – استدلال غير صحيح، وهذا عن الأمور البدهية.
الحقيقة الثانية: مما فات الدكتور الصليبي – أثناء استنتاجاته لآرائه تلك – محاولة الربط الزمني بين مواضع ورد ذكرها قبل ثلاثة آلاف من السنين، وبين مواضع قائمة في زمننا، أكثرها نشأ في عصور متأخرة، فهو لَمْ يحاول عند إيراد اسم من أسماء المواضع التي ذكرها البحث عن نشوء ذلك الاسم ومتى كان؟ وما هو معناه! ولماذا سمي الموضع بهذا الاسم؟
¥