و هذا الأصل اليهودي لابن سبأ لم يكن محل خلاف في الروايات التاريخية، أو لدى كتب الفرق، و في آراء المتقدمين، أمثال: الطبري وابن عساكر وابن الأثير والبغدادي وابن حزم، وأمثال شيخ الإسلام، عليم رحمه الله.
سبب الاختلاف في تحديد هوية ابن سبأ:-
لا غرابة أن يحدث هذا الاختلاف الكبير بين أهل العلم في تحديد هوية و نسب ابن سبأ، فعبد الله بن سبأ قد أحاط نفسه بإطار من الغموض والسرية التامة حتى على معاصريه، فهو لا يكاد يعرف له اسم ولا بلد، لأنه لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له، و حياكة المؤامرات والفتن بين صفوف المسلمين، و لهذا لما سأله عبد الله بن عامر والي البصرة لعثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له: ما أنت؟ لم يخبره ابن سبأ باسمه و اسم أبيه، و إنما قال له: إنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام و رغب في جوارك. تاريخ الطبري (4/ 326 - 327).
و في رأيي أن تلك السرية التامة التي أطبقها ابن سبأ على نفسه سبب رئيسي في اختلاف المؤرخين والمحققين في نسبة ابن سبأ، و غير مستبعد أن يكون ابن سبأ قد تسمى ببعض هذه الأسماء التي ذكرها المؤرخون، بل واستعمل بعض الأسماء الأخرى المستعارة لتغطية ما قام به من جرائم و دسائس في صدر الدولة الإسلامية.
نشأة ابن سبأ:-
على ضوء ما تقدم من المعلومات السابقة – في المقال السابق -، أمكننا الوقوف على الأجواء التي نشأ فيها ابن سبأ، و نستطيع أن نحدد عدد من النقاط:-
1 - بتغليب الروايات السابقة نجد أن ابن سبأ نشأ في اليمن، سواء كان من قبيلة حمير أو همدان، ولا نستطيع الجزم بأيهما.
2 – كان لليهود وجود في اليمن، غير أنه لا نستطيع أن نحدد وقته على وجه الدقة، و قد رجح بعض الأساتذة أنه يرجع إلى سنة (70م) و ذلك حينما نزح اليهود من فلسطين بعد أن دمرها الإمبراطور الروماني (تيتوس) و حطم هيكل (أورشليم) وعلى إثر ذلك تفرق اليهود في الأمصار و وجد بعضهم في اليمن بلداً آمناً فالتجأوا إليه، و بعد أن استولى الأحباش على اليمن سنة (525م) بدأت النصرانية تدخل اليمن. اليمن عبر التاريخ لأحمد حسين (ص 158 - 159).
3 – على إثر هذا امتزجت تعاليم (التوراة) مع تعاليم (الإنجيل) و كانت اليهودية في اليمن يهودية سطحية. مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/ 28).
4 – و لكن اليهودية و إن ضعفت في اليمن بدخول الأحباش فيها، فإنها بقيت مع ذلك محافظة على كيانها، فلم تنهزم و لم تجتث من أصولها. تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (6/ 34).
و لعلنا من خلال تلك الإشارات، نستطيع أن نحدد المحيط الذي نشأ فيه عبد الله بن سبأ، والبيئة التي صاغت أفكاره، خاصة في عقيدة (الرجعة) و (الوصية) حينما قال: (لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمداً يرجع، و قد قال الله عز وجل إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، و إنه كان ألف نبي و وصي و كان على وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء .. ). تاريخ الطبري (4/ 340).
على كل حال فهي معلومات ضئيلة لا تروي غليلاً، ولا تهدي سبيلاً، و لعل مرد ذلك إلى المصادر التي بين أيدينا، فهي لا تكاد تبين عن نشأة ابن سبأ، كما أن المعلومات عن فتوة ابن سبأ قبل ظهوره غير موجودة، و نحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون حتى تخرج آثار أخرى تزيل الغبش و تكشف المكنون.
ظهور ابن سبأ بين المسلمين:-
جاء في تاريخ الطبري (4/ 340) و الكامل لابن الأثير (3/ 77) و البداية والنهاية لابن كثير (7/ 167) و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 7 - 8) و غيرهم من كتب التاريخ ضمن أحداث سنة (35هـ): أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء وأنه أسلم زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، و أخذ يتنقل في بلاد المسلمين يريد ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم بالشام، فلم يقدر على شيء فيها، فأتى مصر واستقر بها و وضع لهم عقيدتي الوصية و الرجعة، فقبلوها منه و كوّن له في مصر أنصاراً ممن استهواهم بآرائه الفاسدة.
لكن أين و متى كان أول ظهور لعبد الله بن سبأ بين المسلمين؟
¥