تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن هذا لا يعني غمط منهج النقد الغربي حقه، والتعسف في الحكم عليه، فلا شك أنه ثمرة عقول مفكرين كبار، طوَّروه من خلال التجربة والاستقراء، فأضاف اللاحق منهم على السابق حتى وصل إلى ما وصل إليه من تكامل وشمول وعمق، وهو يلتقي في كثير من جزئياته وقواعده وأصوله بمنهج العلماء المسلمين الذين سبقوا الغربيين في هذا الميدان بعدة قرون، مما يدل على جذور التأثير الإِسلامي في الفكر الأوروبي منذ أن حصل التماس بين الغرب وحضارة الإِسلام في العصور الوسطى الأوروبية. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن منهج البحث العلمي عند المسلمين لا يقتصر على معطيات مدرسة المحدثين، فهناك معطيات أخرى يقدمها علماء أصول الفقه في منهجهم المنطقي العقلي وتتبلور في كتب أصول الفقه، ومعطيات يقدمها علماء الطب والفلك والرياضيات المسلمون وتتمثل في منهج البحث التجريبي، وهو المنهج الذي ارتبط في تاريخ الفكر الغربي باسم العالم روجر بيكون الذي عول في دراسته على كتب العرب وحدها كما يصرح غوستاف لوبون، وهو المنهج الذي يرجع إليه الفضل في بلوغ حضارة الغرب المادية إلى مستواها التقني الرائع. ولكن الذي يهم فى هذه المقدمة منهج المحدثين الذي يهتم مباشرة بالتعامل مع " الرواية الحديثية " وبالتالي يمكن سحبه إلى أقرب ميدان ليتعامل مع " الرواية التأريخية " وهو الذي يلتقي كثيراً مع " منهج البحث التاريخي ".

وقد استقر منهج المحدثين في كتب مصطلح الحديث منذ القرن الخامس للهجرة على يد الخطيب البغدادي، ولم تلحق به إضافات أساسية، وإن أعيدت الصياغة والترتيب لأغراض مدرسية على يد ابن الصلاح والقاضي عياض، وجرت إضافات دقيقة نتيجة تطبيق الحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير ومن بعدهما الحافظ ابن حجر لهذا المنهج في مؤلفاتهم، ولكن المنهج لم يتعرض لتعديل جوهري، بل تعتبر إضافات الذهبي وابن كثير وابن حجر في جزئيات القواعد العامة، وهي إضافات مهمة تعطينا تصوراً لما كان يمكن أن يصل إليه هذا المنهج من الاكتمال لو استمرت الحركة الفكرية نشيطة في " عالم الإسلام " ولم يتوقف إبداعها ونموها في عصور التخلف الطويلة.

إن الجمع بين معطيات منهج المحدثين ومنهج النقد الغربي يعطي أمثل النتائج إذا حَكَمت الأخير معايير التصور الإسلامي، ولا شك أن الدراسات التاريخية الإسلامية الحديثة ومنها دراسات السيرة النبوية مازالت في بداية الطريق، وهي تحتاج إلى جهود هائلة للارتقاء بها إلى مستوى الدراسات التاريخية العالمية. ويكفي أن القاريء لدراسة حديثة في السيرة لا يكاد يحس فرقًا مهمًا بينها وبين كتاب سيرة ابن هشام أو زاد المعاد على تباين أسلوب ومنهج الكتابين، رغم التطور الهائل في الدراسات الاجتماعية في العصر الحديث. وما تقدمه العلوم الحديثة من معطيات ضخمة تخدم الدراسات الاجتماعية، وللأسف فإننا نعيش على حافة العلم الحديث ولم نجرؤ على اقتحامه لنفيد من معطياته الثرية المتنوعة، مع أن ما ورثناه من أسلافنا في حقل التأليف التاريخي أعظم بكثير مما ورثه المؤرخون الغربيون عن أسلافهم.

وإذا كان النقد التاريخي يبدو ضعيفًا في دراساتنا، فإن التحليل للروايات والتعامل معها يبدو أكثر قصورًا؛ بسبب النظرة التجزيئية للقضايا، والسطحية في التعامل مع الروايات، وعدم وضوح التصور الإِسلامي لحركة التاريخ ودور الفرد والجماعة والعلاقات الجدلية بين القدر والحرية وقانون السببية والربط بين المقدمات والنتائج، فضلاً على أن الكتب التاريخية القديمة لا تمدنا بمنحى واضح في التحليل والتصور الكلي بسبب اعتمادها على سرد الرويات فقط؛ إذ قلما يشير المؤرخ الإِسلامي القديم للسنن والنواميس والقوانين الاجتماعية التي تحكم حركة التاريخ رغم أن القرآن الكريم لفت نظر المسلمين إلى ذلك كله بوضوح. بل إن أحدًا من مؤرخي الإِسلام لم يحاول إعادة صياغة النظرة القرآنية للتاريخ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشواهد التاريخية عليها بشكل نظريات كلية حتى وقت متأخر عندما كتب ابن خلدون مقدمته، رغم أن المفكرين المسلمين تعاملوا مع الفلسفة والمنطق منذ القرون الأولى وأفادوا منها في بناء علوم اللغة وأصول الفقه بوضوح وتصرفوا في ذلك بعقليتهم اليقظة التي تنفي ما يناقض المعتقد الإيماني والتصور الإسلامي، ونجحوا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير