في ذلك إلى حد كبير، وكان نجاحهم في تخطي التجربة يرتبط بمدى وضوح العقيدة وصفائها في عقولهم.
ويرى العديد من الدارسين - وخاصة من المستشرقين - أن علماء المسلمين عنوا بنقد أسانيد الروايات وأهملوا نقد متونها، وقد يتصور البعض أن غياب العقلية النقدية هو سبب إهمال محاكمة المتن، وهنا يلزم الانتباه إلى أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فرغم توسع علماء المسلمين في نقد الأسانيد إلا أنهم لم يهملوا نقد المتون ومحاكمتها، بل عنوا بذلك أيضاً، ويصعب حصر الشواهد على ذلك لكثرتها، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض المحاكمات التاريخية التي استندت إلى نقد المتن.
لقد رفض ابن حزم الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أُحد بناء على محاكمة المتن وفق أقيسة عقلية بحتة.
وقدَّم موسى بن عقبة عزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفاً معظم كتاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة، وتابعه ابن القيم والذهبي بناء على نقد المتن، حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة.
وقد وقع اختلاف في تاريخ غزوة ذات الرقاع بين قدامى المؤرخين بناء على محاكمة المتن، فأخرها البخاري، وتابعه ابن القيم وابن كثير وابن حجر إلى ما بعد خيبر، خلافاً لرأي ابن إسحق والواقدي، بناء على اشتراك أبي موسى الأشعرى وأبي هريرة فيها، وقد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر مباشرة.
وجرت مناقشات مستفيضة حول تاريخ تشريع صلاة الخوف ومعظمها مبني على محاكمة المتن.
وقد كشف الخطابي عن نسخ تحريم وادي وج بالطائف بناء على محاكمة المتن.
وهذه الموضوعات يمكن مراجعتها في مظانها من هذا الكتاب، فهي نماذج مستقاة منه.
وهناك نماذج أخرى لا يتسع المقام لسردها، ولكن لا بد من الاعتراف بحقيقة تاريخية وهي أن القرون الثلاثة الأولى انصب فيها جهد المؤرخين على جمع الروايات وتدوينها وتصنيفها في الكتب، مع قدر من الانتقاء، يتضح من المقابلة بين المؤلفات ومصادرها الأقدم، حيث يُسقط المتأخر مجموعة من روايات المتقدم، كما فعل ابن هشام مع ابن إسحق، والطبري مع مصادره الأولية.
ورغم أن الانتقاء نفسه يمثل عملاً نقديًا إلا أن الجهد الضخم الذي بذل في تثبيت الروايات وحفظها في الكتب استنفد طاقة الأوائل من المؤرخين، وقام المتأخرون منهم بدور التلخيص لأعمال الأوائل والتذييل عليهم.
وتبرز في مؤلفات متأخرة محاكمات دقيقة للمتون كما يتضح ذلك بجلاء لمن يطلع على (البداية والنهاية) لابن كثير و (فتح الباري) للحافظ ابن حجر في شرحه لقسم المغازي من صحيح البخاري، ولكن ذلك لا يعني أن نقد المتن تم بنفس التوسع الذي فازت به نصوص التاريخ الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعدما اكتملت مناهج النقد التاريخي، ولكن هل من الإنصاف أن تُقَوَّمَ جهود القدامى بمقاييس حديثة هي من منجزات التقدم العلمي في كل ميدان عبر عدة قرون؟!
ومع ذلك فإن تقويم العقلية النقدية عند علماء المسلمين القدامي ينبغي ألا يتم من خلال الكتب التاريخية وحدها، وإنما ينظر إلى جملة الناتج الفكري في الفقه والفقه المقارن (كتب أحاديث الأحكام) فلا شك أن كتب الفقه ركزت على المتون تركيزًا عظيمًا تفسيرًا وتوضيحًا وإعرابًا واستنباطًا. ومن الواضح أن عمل المحدثين والفقهاء يتكامل، فلا بد للمنصف أن يعترف بأن السنة النبوية نالت عناية عظيمة ومتوازنة من قبل العلماء المسلمين.
وتتضح في كتب أصول الفقه المحاكمات الدقيقة للمتون التي تكشف عن عقلية نقدية فذة، وإذا كان المؤرخون القدامى معظمهم له جهود في حقول العلوم الإسلامية الأخرى، فإن الحكم عليهم ينبغي أن يكون من خلال تقويم جملة نتاجهم الفكري مع مراعاة عنصر الزمن حتى لا يغمطوا حقهم من التقويم.
وأيضًا لا بد من توضيح أن الجانب النظري لنقد المتن كان متبلورًا إلى حد كبير منذ القرون الأولى في كتب مصطلح الحديث كما في أقسام المدرج والمعلل والمضطرب والشاذ والمنكر والموضوع وغيرها مما يدور الكلام فيها على نقد الأسانيد والمتون معًا، ولكن القصور كان في تطبيق ذلك عمليًا عند التعامل مع الرواية التأريخية التي لم تحظ بنفس القدر من النقد الذي حظيت به الأحاديث النبوية.
¥