حسنًا؛ فعليك بأربعةٍ من الطير، قالوا: حمامةً وديكًا وطاوسًا وغراباً. ثم اعرفهن جيدًا، وصرهن إليك، وقربهن نحوك، تأمل، طيورٌ عدة، أشكالٌ متباينة، أحجام مختلفة، ألوانٌ متغايرة؛ ثم اذبحهن، وخلّطهن، واصنع من هذه الأشلاء الممزقة أجزاءً:
"ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ". .
ما أشقَ هذه المرحلة! إذنْ عليه أن يكابد صعود الجبال جبلاً تلو جبال، وقد قالوا أنه صعد أربعةَ أجبل ـ وأورد ذلك الحافظُ ابن كثير والطبري والزمخشري في تفاسيرهم ـ.
ويصعدُ إبراهيمُ الجبل الواحدَ، ويعاني من ذلك الأَمَرِّينَ والأَقْوَرِينَ، ومن صعد جبال مكة في العمرة أو الحج يعرف مدى مشقةَ ذلك جيدًا.
ولماذا يريدُ اللهُ أن يكابدَ إبراهيمُ هذه المكابدة؛ ذلك ليتعب من أجل الحقيقة، ذلك ليسعى الإنسانُ في طلب المعرفة، ذلك تعلمَ أن العلمَ لا يأتي إلا بما هو مثل صعود الجبال.
وذلك أيضًا ليرسخ هذا الموقفُ في وجدان إبراهيم؛ وهي طريقةٌ تربوية، فالمعلومةُ التي يُبذلُ فيها جهدٌ تَثبُت وترسَخ، والله يستطيع أن يريه إحياءَ الموتى، سهلاً رِسْلاً، ولا ينغْصه في ذلك تعب، ولا يكدره في ذلك نصب. ولكنه ـ سبحانه ـ لا يريدُ أن يمر هذا الموقفُ على إبراهيمَ مرورَ الكرامِ.
... والآن، قام إبراهيمُ بالمهمة، ونزل عن آخر جبل، ثم وقف مستقبلاً هذه الجبال الشاهقة، التي وضع على كل قمةٍ من قممها جزءًا من أشلاء هذه الطيور.
وينادي على هذه الأشلاء، ويقول: تعالين بإذن الله
"ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [البقرة260].
وإذا بالأشلاء الممزقةِ تلتئمُ في الهواء بإذن الله، وتعود طائرةً نحو إبراهيم، فيقفن أمامه، ويتأملُهن فإذا هي حقًا تلك الطيورُ التي ذبحها ومزقها بيديه. فما أعظم الله!
وحدثت المعجزة التي أجراها الله على يدِ إبراهيمَ، فالله سبحانه لم يكتف بإحياء الموتى له، بل جعل إبراهيمَ نفسَه هو الذي يُحيي الموتى بإذن الله، ليكون ذلك أبلغ في الإعجاز، وأبين لعظيم قدرة الله.
والأعجب من ذلك أيضًا:
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} لقمان28
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يس، 78، 79
...
وهذه مريم البتولُ، تلك التي اصطفها الله، وجاءت الملائكةُ تقولُ لها:
" ... يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) "
هكذا اختارها اللهُ تعالى صفوةً من صفوة، إذن عليكِ بشكر النعمة، والاستعادِ للمهمة:
" يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ {46} " [آل عمران].
تتساءل، وتُفكر في قدرة الله بمنطق البشر، بل بمنطق الفكر الإنساني المحدود الضعيف، لذا:
"قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ"
كيف يكون لي طفلٌ من غير أب، بل كيف تخلُق ـ سبحانه ـ إنسانًا بغير أب؟ "قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {47} " [آل عمران].
بل إن الأمر بالنسبة له أهونُ من ذلك؛ فلن يكلف نفسه مشقةً ولا نصبًا في أمر خلق الخليقة كلها، إنما هي كلمة يقولها، كن فيكون.
...
في النفس وفي الناس:
¥