ب) أو من استأنست وآنست بمعنى أبصرت وأحسست به، وفي التّنزيل العزيز: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [القصص: من الآية 29]، يعني أبصرْتُ نارا. وقال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النّساء: من الآية 6]، أي: أحسستم وعلمتم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النّور: من الآية 27]، أي: تعلموا.
ومن ثمّ قيل للإنس إنس لأنّهم يؤنَسون، أي: يُبصرون، كما قيل للجنّ (جنّ) لأنّهم لا يؤنسون، أي لا يبصرون.
الفائدة: اعجب بعد ذلك كلّه من اعتقاد كثير من النّاس أنّ الإنسان سمّي بذلك لكثرة النّسيان!
واعجب أكثر لأمر هؤلاء الّذين يصدّقون أنّ فلانا من النّاس رأى أو التقط صورة جنّي!! مع أنّ لفظة (جنّي) معناها الاستتار والاختفاء؟! فمادّة (ج ن ن) تدلّ على ذلك كلّه كما قال ابن فارس، فما سمّي الجنيّ بذلك إلاّ لاستتاره، وما سمّي الجنين جنينا إلاّ لاختفائه، وما سمّي المجنون مجنونا إلاّ لاختفاء عقله وجنانه، وما سمّيت الجنّة جنّة إلاّ لأنّها أرض سُترت بالأشجار وغير ذلك، وما قيل: جنّ اللّيل إلاّ لأنّه يستر الكون بإقباله، وما سمّي الدّرع (مِجنّاً) إلاّ ليستر المقاتل في نِزاله، وعلى ذلك فقس.
الكلمة الثّانية: (خلق).
فالفعل (خلق) له ثلاثة معان في اللّغة:
أ) الإيجاد من عدم، وهذا لا يطلق إلاّ على الله تعالى.
ب) التّقدير والقياس، تقول خلقت كذا إذا قدّرته وقسته، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السسلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا} [آل عمران: من الآية 49].
ج) والكذب، كقوله تعالى-على قول-: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: من الآية 17]، أي تكذبون كذبا، ومنه الاختلاق: وهو الكذب، والحديث المختلق هو الموضوع المصنوع، وقد قرئ: {إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الْأَوَّلِينَ}. [الشعراء:137].
الفائدة: من أجل ذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى أنّه لا يجوز أن يقال عن المخلوق: إنّه خلق فرصة، وخلق كذا، ونحو ذلك، وإنّما يقال أبدع وأنشأ، فذاك أقوم للّسان وأكثر أدبا مع الرّحمن. [انظر " تقويم اللّسانين " (ص 14)].
فإن قال قائل: أليس المعنى واحدا، فلِمَ تُحجّرون واسعا؟
قيل له: حنانيك أخي الكريم، فإنّ الألفاظ لها في الكلام وزنها، وعلى السّماع ثقلها، ألا ترى كيف نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن أن ينادي العبد سيّده: ربّي، والسّيد عبدَه: عبدي، وأمر العبد أن يقول: سيّدي، والسّيدَ أن يقول: فتاي.
ألا ترى أنّ كلمة (أعوذ) بمعنى ألجأ وأستجير، ومع ذلك لا يحسُن بأحد أن يقول: أعوذ بفلان، ولكن ليقلْ: أستجير، وغير ذلك.
الكلمة الثّالثة: (زوجها).
الزّوج في اللّغة: الفرد الّذي له قرين، أي الصّنف الواحد الذي له ما يماثله، أو يخالفه، قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}، فكلّ منهما زوج، فالرّجل زوج المرأة، وهي زوجه، كما في قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وفي قوله: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، ويقال أيضا: هي زوجته، قال الرّاغب رحمه الله: " وهي لغة رديئة ".
وكلام الرّاغب صواب، لكنْ يُحتاج إلى هذا اللّفظ في قسمة الميراث، للتّمييز بين قسمة الرّجل والمرأة.
الفائدة: فلا يقال إذن لـ (لاثنين): زوج-كما هو لسان العامّة-، إنّما يقال: زوجان، أي صنفان، فإن لم يكن له ما يقارنه فهو فرد، ألا ترى أنّك تفهم من قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} [الأنعام: من الآية 143] أنّها ثمانية لا ستّة عشر، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: من الآية 40] أي: صنفين، وقال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذّاريات:49]، وقال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرّحمن:52] أي: صنفان.
فكلّ مقترنين متجانسين كانا أو نقيضين فهما زوج.
¥