تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومع أن هذا التصريح جليّ للأعيان، إلا أننا نعجب أن مِن علمائنا مَن أغفل قيمته في مصنّفاته، حتى أن الإمام يحيى بن حمزة العلوي قد شكّك في اعتبار كون القرآن خالياً عن التناقض، وجهًا من وجوه إعجازه. يقول رحمه الله في بيانه لما ذهب إليه: "وهذا فاسد لأوجه، أما أولاً فلأن الإجماع منعقد على أن التحدّي واقع بكل واحدة من سور القرآن، وقد يوجد في كثير من الخطب والشعر والرسائل، ما يكون في مقدار سورة خالياً عن التناقض، فيلزم أن يكون معجزاً. وأما ثانياً فلأنه لو كان الأمر كما قالوه في وجه الإعجاز لم يكن تعجّبهم من أجل فصاحته، وحسن نظمه، ولوجب أن يكون تعجّبهم من أجل سلامته عما قالوه، فلمّا علمنا من حالهم خلاف ذلك بطل ما زعموه. وأما ثالثاً فلأن السلامة عن المناقضة ليس خارقاً للعادات، فإنه ربّما أمكن كثيراً في سائر الأزمان، وإذا كان معتاداً لم يكن العلم بخلوّ القرآن عن المناقضة والاختلاف معجزاً، لما كان معتاداً، ومن حقّ ما يكون معجزاً أن يكون ناقضاً للعادة" ().

وبعد أن ذكر هذه الأوجه الثلاثة، قال رحمه الله: "وأيضاً فإنا نقول جعلكم الوضع في إعجازه خلوّه عن المناقضة والاختلاف ليس علماً ضرورياً، بل لا بدّ فيه من إقامة الدلالة، فيجب على من قال هذه المقالة تصحيحها بالدلالة لتكون مقبولة، وهم لم يفعلوا ذلك".

ويبدو كذلك أن الشيخ عبد العظيم الزرقاني قد تأثّر ملاحظة الإمام العلوي، إذ نراه هو الآخر يورد في كتابه عنواناً أسماه "وجوه معلولة"، قال بعده مباشرة: "ذكر بعضهم وجوهاً أخرى للإعجاز، ولكنها لا تسلم في نظرنا من طعن، لأن منها ما يتداخل بعضه في بعض، ومنها ما لا يجوز أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز بحال. ونمثّل لهذا الذي ذكروه بتلك الأوجه العشرة التي عدّها القرطبي، وهي .. " (). وبعد أن تعرّض لهذه الوجوه، وقام بدمج بعضها في بعض خالف القرطبي في وجهين منها هما: الحِكم البالغة والتناقض بين معانيه. وقال: "إن واحداً منهما لا يصلح وجهاً من وجوه الإعجاز لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة، بل كثيراً ما نجد كلام الناس مشتملاً على حِكَمٍ وسليماً من التناقض والاختلاف" ().

ولكن المتأمّل في كلام هذين الإمامين الجليلين يرى أنه بنفيهما "عدم الاختلاف والتناقض" من بين وجوه الإعجاز، قد خالفا النصّ القرآني الوارد في آية النساء، وهو ما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فالقرآن الكريم يصرّح بأن سلامته عن الاختلاف دليل على كونه من عند الله تعالى، فهو إذن وجه أصيل من وجوه الإعجاز. خاصّة وأن القرآن استغرق إنزاله ثلاثاً وعشرين سنة، ومع هذا لا نلمح خلافاً بين أول ما نزل وآخر ما نزل من حيث استواؤه موضوعاً وشكلاً ().

يقول ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده بتدبّر القرآن، وناهياً لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهّم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حقّ من حقّ" (). ويقول الطبري: "أفلا يتدبّر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض" ().

فتفسير الآية واضح وجليّ. ولكن الأمر الذي سنعلّق عليه هنا هو قوله تعالى: {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}. إذ إن قوله تعالى: {لَوَجَدُواْ فِيهِ} قابل لأن يحيل على قضية شيئية أو قضية لغوية، كما افترضنا من قبل في قولنا مثلاً: "هذه الجملة تتكوّن من ست كلمات". والآية تقول إنه لو كان القرآن من تأليف البشر، وليس من عند الله {لَوَجَدُواْ فِيهِ} {اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}! فهل يمكننا تطبيق مبدأ "الإحالة الذاتية" على هذه العبارة من النصّ القرآني الكريم؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير