تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نعود من جديد إلى الآية التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها، أنه لو لم يكن هذا الكتاب من عنده، لوجد فيه الذين يتدبّرونه «اختلافاً كثيراً». ونقول: لقد تمّ "استعمال" كلمة «اختلافاً» في العبارة القرآنية للدلالة على عدم وجود التناقض في كلامه تعالى. ولكن في حالة إسناد كلمة «اختلافاً» إلى "ذكرها" في العبارة القرآنية، نجد أنفسنا أمام أمر عجيب، لأننا نحصل على صورة مغايرة تماماً لما نعهده في الكتب البشرية جمعاء. فإذا أمعنت النظر في ذكر كلمة «اختلافاً»، وليس في "استعمالها"، أي في دلالتها المعنوية في الآية، فستتجلّى لك الصورة التالية:

لو كان القرآن من تأليف البشر، لوجدت أن "ذكر" كلمة «اختلافاً» ككلمة، جاء فيه أكثر من مرة واحدة، لأن كلمة «كثيراً» تفيد الكثرة، وهي بالعادة أكثر من مرة واحدة. والآن وبعد الرجوع إلى القرآن الكريم، نجد أن كلمة «اختلافاً» جاءت بهذه الصيغة في كل القرآن الكريم مرة واحدة فقط، وذلك في الآية التي نحن بصددها.

فلو كان هذا القرآن من عند غير الله، «لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً»، كأن قد قيل: لو كان هذا القرآن من كلام البشر، لوجدتم فيه أيها السادة أن كلمة «اختلافاً» "كذكر" لكلمة «اختلافاً»، جاءت فيه أكثر من مرة واحدة. ولكن بما أن هذه الكلمة لم ترد بهذه الصيغة إلا مرة واحدة في كل القرآن، فإن ما نقرؤه في القرآن الكريم هو حقاً كلام الله سبحانه وتعالى!

فهل يمكن لبشر أن يحيط بشيء من هذا القبيل؟ لا يمكن! ولماذا؟ لأن البشر لا يستطيعون تصوير الحقائق بصورة مطلقة، يستوي في ذلك ما كان معلوماً منها عندهم أو مجهولاً. وكلما اتسع إدراكنا لهذه الحقيقة، تبيّن لنا أن التصوير المطلق للعبارات القرآنية يوحي بأن هذا الكتاب العظيم قادم من الملأ الأعلى، وفيه من الإعجاز ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي! ولنوضّح هذه الصيغ العجيبة بمزيد من الأمثلة.

اثنا عشر شهراً في كتاب الله ..

يقول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. فواضح من الآية أن عدد الشهور المعتدّ بها عند الله سبحانه وتعالى في شرعه وحكمه، هو اثنا عشر شهراً على المنازل القمرية.

يقول الدكتور حسين جمعة في شأن فصاحة كلمة «عِدّة» في هذه الآية الكريمة أنها "اكتسبت أبعاداً فكرية وجمالية خاصّة في سياقها القرآني. فالعدّة تشير إلى المقدار والتهيّؤ للعملية الإحصائية .. ولكنها في الوقت نفسه ارتبطت ببلاغة التصميم للكون منذ بدء التكوين ثم اتّفقت بالدلالة مع ما تواضع عليه الخَلْق في عدد الشهور. فانتظم التهيّؤ الكيفيّ التركيبيّ للكلمة مع الدلالة في تطورّها منذ تصميم الكون حتى خلق البشرية، واتفاقهم على معطيات العدد والعِدَّة في مواضَعاتهم الاجتماعية والفكرية .. " ().

ومع اكتساب الـ «عِدّة» لهذه الجمالية الخاصّة، إلا أننا نجد لها جمالية أعظم في تأليفها المحكم، واقترانها الدقيق بعبارة «في كتاب الله». يقول الزمخشري: " «في كتاب الله»: أي فيما أثبته، وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً، وقيل: في اللوح" ()، أي في اللوح المحفوظ «يوم خلق السموات والأرض». وإلى هذا الرأي الأخير ذهب أكثر المفسرين ().

ولكن عند تدبّر عبارة «في كتاب الله» في هذه الآية الكريمة، نجد أنها جملة قابلة لأن تحيل على قضية لغوية، لأنها تتكلّم عن نفسها، أي أنها جملة انعكاسية، وتكشف لنا عن سرّ جديد من أسرار التعبير القرآني العجيب. فالآية تقول: «إن عِدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله»، ولم تقل: "إن عدّة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات والأرض .. "، مع أن هذا هو المعنى العام والمقصود للعبارة، كما أشار إليه المفسّرون. فلابدّ إذن أن يكون لهذا الاختيار دلالته. وإننا لنعجب حقاً عندما نجد أن كلمة "شهر" تردّدت في كل القرآن الكريم بصيغة المفرد (12) مرة بالضبط، فكان ذلك في المواقع التالية:

البقرة: 185

البقرة: 185

البقرة: 194

البقرة: 194

البقرة: 217

المائدة: 2

المائدة: 97

التوبة: 36

سبأ: 12

سبأ: 12

الأحقاف: 15

القدر: 3

فهذا الاختيار الحكيم يضفي معنى بيانياً - رياضياً إلى المعنى العام الذي عبّرت عنه الآية الكريمة، ليصبح مفهومها كما جاء في تعبير النصّ القرآني نفسه: «اثنا عشر شهراً في كتاب الله». فمع أن عدد الشهور في السنة هو (12) شهراً، إلا أننا نجد أن عدد الشهور الواردة «في كتاب الله» يساوي أيضاً (12) شهراً، أي أن كلمة "شهر" جاء ذكرها (12) مرة في صفحات القرآن. فانظر إلى دقّة انتقاء الكلمات في التعبير القرآني المعجز. فلو أن كلمة "شهر" تكرّرت أكثر أو أقل من (12) مرة في القرآن الكريم، لنجم تناقض في النصّ! ولكن هيهات .. فهذا لا يكون إلا تنزيل من العزيز الحكيم سبحانه.

وللحديث بقية .. إن شاء الله تعالى ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير