الشيطان يقرأ عليهم من كتاب يتضمن قصص رستم وإسفنديار وملوك الفرس، زاعما أن قصصه أحسن من قصص محمد حسبما ورد فى التفاسير وكتب أسباب النزول.
فـ"الأساطير" هنا معناها الكلام المسطور، أى المكتوب.
وفى "لسان العرب" و"تاج العروس" على سبيل المثال أن "الأساطير" جَمْع "سطر" أو جمع "أسطار"، الذى هو بدوره جمع لـ"سطر"، وإن كان هناك من يقول إنها جمع "أسطورة"، ومن يقول إنه جمع لا واحد له من لفظه.
وقد ذكر بعض اللغويين أنها "الأباطيل" كما جاء فى "الصحاح" و"لسان العرب" أو "الأباطيل أو الأحاديث التى لا نظام لها" حسبما ورد فى "تاج العروس"، وإن لم يكن هذا شرطا فى رأيى، فهو ليس من أصل المادة، بل مجرد إسقاط لموقف الكفار، الذين كانوا يتعنتون على النبى الكريم ويعملون جهد طاقتهم على تكذيبه صلى الله عليه وسلم، على كلمة "أساطير"، لأن المادة التى اشتُقَّت منها هذه الكلمة ليس فيها معنى البطلان، بل هى مادة "السطر والتسطير" أى الكتابة لا غير.
وكان ابن عباس يتأولها بهذا التأويل على ما ورد فى تفسير الطبرى للآية 25 من سورة "الأنعام" والآية 24 من سورة "النحل" مثلا.
ولو كانت تعنى "البطلان" لقد كان النضر إذن يكذّب نفسه أيضا حينما كان يأتى بقصص رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة ويقرؤها على الجمهور ليصرفهم عن آيات القرآن التى كان يتلوها على مسامعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متصوَّر بطبيعة الحال!
جاء فى تفسير القرطبى أثناء كلامه فى الآية 25 من سورة "الأنعام" عن ابن عَبَّاس: أن المشركين "قَالُوا لِلنَّضْرِ بن الْحَارِث: مَا يَقُول مُحَمَّد؟ قَالَ: أَرَى تَحْرِيك شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُول إِلا أَسَاطِير الأَوَّلِينَ مِثْلمَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ الْقُرُون الْمَاضِيَة، وَكَانَ النَّضْر صَاحِب قَصَص وَأَسْفَار، فَسَمِعَ أَقَاصِيص فِي دِيَار الْعَجَم مِثْل قِصَّة رُسْتُم وإسفنديار فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ".
وقد أتاها هذا "البطلان" من موقف المشركين نفسه لا من شىء آخر كما قلنا، إذ كانوا يقصدون باستعمالها أن يقولوا إن ما يتلوه محمد ليس وحيا نزل من عند الله، بل هو كلام منقول عن السابقين مسطورٍ فى الكتب ويُتَعلَّم تعلّما ويستطيع أن ينسخه من يريد. فتكذيبهم بالوحى هو الذى خلع، من حيث الواقع العملى، على الكلمة معنى "البطلان"، وإلا فلو كانوا يقصدون أن يتهموا آيات القرآن بأنها قصص باطلة لا أساس لها لقالوا مثلا: "خُرافات" أو "أحاديثُ خُرافة".
وقد تعلق أركون بهذه الكلمة، وعضّ عليها بالنواجذ؛ ليصف بها القرآن الكريم بعد أن أعطاها المعنى الذى نستعملها به الآن، وهو معنى "الخرافة" كما سنوضح لاحقا، فلما هاجمه بعض الكتاب المسلمين الذين يغارون على دينهم وعلى الحقيقة التى يمثلها هذا الدين فى أصفى مجاليها وتجلياتها وأظهروا سخف ما صنع، أخذ يتمحّك قائلا إن المسؤول عن ذلك الالتباس هو د. عادل العوا (مترجم كتابه "الفكر العربى"). كما زعم فى محاضرة له بدمشق ضمن نشاط "أيام الفرنكفونية" أنه قد وقع بينهما خصام ومشادة بسبب ترجمة العوا لعبارته: "كتاب قصصى" بـ"كتاب أسطورى"! (انظر مقال أنور بدر فى صفحة "أدب وفن" من صحيفة "القدس العربى" اللندنية/ الجمعة 26 مارس 2004م).
وهذا كلام عجيب لا يجوز ولا فى عقول البُلْه، إذ الدكتور العوا لم يصنع شيئا أكثر من أنه ترجم الكلمة التى استعملها أركون فى وصف القرآن مرارا وتكرارا فى كتبه ومقالاته وحواراته المختلفة، ألا وهى كلمة " un mythe, mythique"، التى لا تعنى ولا يمكن أن تعنى إلا "أسطورة، أسطورى" حسبما ترجمها العوا.
ترى ماذا كان د. أركون يريد من الأستاذ المترجم؟ أكان يريد منه أن يلغى عقله وضميره حتى لا يكشف للقارئ العربى المسلم هذه العورة الفكرية؟ لكن ما الذى أدرى العوا بأن أركون لا يريد أن يعرف ذلك القارئ بهذا الذى يقوله فى القرآن؟ أكان يشمّ على ظهر يده؟ أتراه كان كاهنا، فهو يطلع على الغيب ويعرف مقدما أن د. أركون سوف يغضب من هذه الفضيحة غير المقصودة؟
¥