خلاصة القول أن د. أركون قد أخذ كلمة "الأساطير" التى استعملها المشركون فى تكذيب النبى عليه السلام، ثم أفرغها من محتواها اللغوى القديم وأعطاها معنى الخرافة، وهو المعنى الذى شاع لها الآن ولم نعد نفكر فى غيره، فضلا عن أن نقصده. ثم لم يكتف الدكتور بهذا على فداحته، بل ادعى أنه لا يستعمل هذه الكلمة بالمعنى السئ الذى استعملها به القرآن. وكل دعاواه، كما وضحتُ ورأَى القراءُ معى، هى دعاوى غير صحيحة.
كما أنه حريص على تغيير المصطلحات الإسلامية بمصطلحات أنثروبولوجية وألسنية كى يتسلل كالثعلب إلى عقول قرائه المسلمين المقصودين بكل هذه "الهيصة" التى يحدثها هو ودرويشه المنقطع له فلا يثيرهم شىء من انتقاده وتكذيبه للوحى.
وقد تناول هاشم صالح هذه النقطة، ولكنه تمحك بالمنهجية والحيادية العلمية فقال فى أحد تعليقاته إن "أركون يستخدم مصطلحات ألسنية محضة للتحدث عن القرآن، فهو يقول: "المنطوقة" أو "العبارة اللغوية" بدلا من "الآية القرآنية"، ويقول: "المدوَّنة النَّصِّيّة" بدلا من "القرآن" ... إلخ. وسبب ذلك هو أنه يريد تحييد الشحنات اللاهوتية التى سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن. فالقداسة اللاهوتية أو الهيبة اللاهوتية العظمى التى تحيط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو، أَىْ نَصّ لغوى مؤلف من كلمات وحروف وتركيبات لغوية ونحوية وبلاغية ... بمعنى آخر إن المادة اللغوية للقرآن اختفت تماما أو غابت عن أنظارنا بسبب الهيبة العظيمة التى تحيط به. وميزة القراءة الألسنية هى أنها تحيِّد الهيبة، ولو للحظة، من أجل فهم التركيبة النصية واللغوية للقرآن" (القرآن من التفسير الموروث إلىتحليل الخطاب الدينى/ 119 فى الهامش).
والذى يسمع كلام صالح دون أن تكون عنده فكرة عن حقيقة الأمر سوف يظن أنه، فى الوقت الذى يتحدث أركون عن القرآن وهو متمالك قواه العقلية والمنطقية، إذا بواحد مثلى ينخرط أثناء الرد عليه فى فاصل لا ينتهى من النهنهات والشهقات والتأوهات ولطم الخدود والرقص والتطوح والصراخ والزعيق كما يفعل المتواجدون فى حلقات الذكر بسبب ما حدث له من "لُطْف وانجذاب" بتأثير من "الهيبة اللاهوتية الأنثروبولوجية المخيالية" التى تلغى العقل وتُشِلّ الفكر والمنطق، مع سيول من الدموع المنهمرة التى لا تُعَدّ الدموع التى ذرفتْها مريم فخر الدين فى جميع أفلامها مع فريد الأطرش والعندليب الأسمر شيئا بالقياس إليها، والتى استهلكتُ لها قناطير من ورق الكلينكس المستورد كَلَّفَتِ الخزانة العامة مقدارا هائلا من العملة الصعبة كان يمكن أن يُنْفَق على البرنامج الأركونى الهادف إلى تغيير المخيال الجماعى واستبدال "الخيبة" الألسنية بـ"الهيبة" اللاهوتية حسبما مر منذ قليل!
وبهذا نكون قد "فكَّكْنا" اللعبة التى أراد سيادته أن يضحك بها على ذقوننا ظنًّا منه أننا "برِيَالة"، وعليه هو أن يلُمّ قِطَعها ويركّبها من جديد إن استطاع! أقول: "فكّكنا" رغم كراهيتى لهذا المصطلح لما أعرفه عمن يستخدمونه من بيننا والنيات التى يضمرونها من وراء هذا الاستخدام! ولا تنس أن تسلِّم لى على "المخيال الجماعى"، ودَعْك من "الهيبة القرآنية"، فهى لا تُؤَكِّل عيشا فى هذا العصر الأركونى!
هذا، وأكرر ما سبق أن قلته من أن كلمة "أساطير" لا تعنى "الباطل" فى أصل اشتقاقها، وأنها إن كانت تعنى هذا فى كلام المشركين فهو من أثر موقفهم المتعنت من رسول الله عليه الصلاة والسلام وتكذيبهم له واتهامهم إياه بأنه إنما يتلو عليهم قصص الأولين المسطورة فى الكتب لا وحيا إلهيا.
وإذا كنتُ قد سقتُ قبلا الأسباب التى حاجَجْتُ بها عن هذا الفهم، فهأنذا أضيف لما قلته شواهد من الشعر العربى قديمه وحديثه وردت فيها هذه الكلمة بالمعنى الذى شرحته، وليس فيها معنى "البطلان".
قال أُحَيْحَة بن الجلاح:
فلم يتركا إلا رسوما كأنها .. .. .. .. .. أساطير وحىٍ فى قراطيس مُقْتَرِى
أى سطور كتاب فى يد قارئ.
وقال ابن الرومى:
سطَّر العابثون فيها أساطيـ .. .. .. .. .. ـر عَفَتْ متنها فما يُسْتبان
أى سطورًا امَّحَتْ، فلم تعد ظاهرة للعيون.
وقال ابن الزقاق البلنسى:
سِيَرٌ تذكِّرنا أساطير الأُلَى .. .. .. .. .. كانوا الدعائم فى الزمان الأولِ
وقال الشريف الرضى:
¥