لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ التعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير ... إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى. ومن هنا أراد بلاشير أن يكون هو "الفأر الزردوق" الذى يعلّق الجُلْجُل فى رقبة القط ويحصل له الشرف، شرف الإساءة إلى العلم والحق، بل إلى الشرف نفسه!
هذه هى حقيقة المسألة، ولا شىء غير ذلك، وما كل هذه الطنطنات الأركونية إلا ألاعيب صغيرة لا تنطلى على من يعرف هذه الأساليب الاستشراقية الخبيثة!
إن هذا الصنف من المستشرقين ليس له من عمل إلا التشكيك فى كل ما يتعلق بالإسلام والقرآن، حتى إنهم ليشككون مثلا فى نسب الرسول عليه السلام زاعمين أن "عبد الله" ليس أباه، بل هو مجرد اسم معناه: "إنسان" على اعتبار أن كل إنسان هو "عبد الله"، أى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أب معروف، فلذلك قيل إنه ابن عبد من عباد الله، بما يعنى أنه "ابن رجل"، والسلام. أما مَنْ هذا الرجل؟ فلا أحد يعرف!
تالله إن من يقول هذا عن رسول الله إنما هو " مَرَة مِنْ ظَهْر مَرَة "!
(مع احترامى الشديد للجنس اللطيف الذى لايمكن أن يدور فى بالى الإساءة إليه بحال، بل هو مجرد تعبير مجازى مغروس فى "المخيال" الشعبى أستعين به لغرض فنى ولإتاحة الفرصة لنفسى كى أتفيهق أنا أيضا، ولو مرةً فى العمر، بكلمة "مخيال").
ومن هذا الوادى أيضا قول مستشرق آخر إن خطبة الجمعة كانت بعد ركعتَىِ الصلاة كما هو الحال فى صلاة العيدين، ثم أصبحتْ فى العصر الأموى قبلهما.
ومنه كذلك زَعْمُ ثالثٍ أن عبد الملك بن مروان قد بنى قبة الصخرة كى يستعيض بها الحجاج الأمويون عن الحج، الذى يستلزم الذهاب إلى الحجاز حيث يبسط ابن الزبير نفوذه، ومن ثم يمكنه أن يؤثر فى ولاء حجاج الشام إذا ذهبوا إلى هناك.
ومنه زَعْم هذا الأعمى البصر والبصيرة، متابعةً منه لكايتانى، أن "سدرة المنتهى" ليست شجرة سماوية، بل شجرة فى أطراف مكة، وأن "جنة المأوى" دارةٌ (فيللا) هناك.
ألا ما أعجب هذا العلم الخارج من أستاه المستشرقين!
هل من المعقول أن أى مستشرق تنبض فى استه فكرة ما تنغّص عليه توازنه وراحة باله لا يجد لها من حل إلا الافتراء على القرآن والزعم بأن هذه الآية أو تلك كان مكانها هناك، لكنها نُقِلت إلى هنا؟
وبالمناسبة فإن ما يقوله بلاشير، ويردده خلفه أركون، ليس له أى أساس من الصحة، لكنها السخافة الاستشراقية التى يدَّعى أركون أن منهجه يتخطاها، ثم يتضح أنه ليس إلا تقليدا لها!
وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة الاستشراقية:
"أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟ /9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1)
"نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟ /15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2).
والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟
ومع ذلك فإن أركون يبتهج به ويشمت رافعا ذيله تيهًا وعُجْبًا!
¥