إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا!
وبالنسبة للقصص الثلاث التى تحتوى عليها سورة "الكهف" يقول أركون إنها "مغروسة عميقا فى الذاكرة الجماعية العتيقة للشرق الأوسط" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 151)، ومعنى هذا، مرة أخرى، أن القرآن ليس إلا النتاج المخيالى للبيئة التى ظهر فيها على عكس ما يتوهم المفسرون التقليديون الذين يرى سيادته أن منهجهم لا يصلح لتناول القرآن (ص153، 154 - 155، 162).
وهذا تدليس علمى على أخيب طراز.
لماذا؟
لأن القرآن لم يورد هذه القصص الثلاث ابتداءً، بل أوردها ردًّا على التحدى الذى وجهه كفار قريش إلى الرسول بناءً على تحريض من أحبار اليهود، الذين قالوا لهم إن بإمكانهم أن يحرجوه بسؤاله عن أبطالها، على اعتبار أنه لن يعرف كيف يجيب على هذا التحدى، إذ لا علم له بهذه القصص الثلاث.
فما معنى هذا؟
معناه أن أحبار اليهود كانوا متأكدين أن محمدا ليس عنده أى علم بهؤلاء الأشخاص، وأن قريشا نفسها لم تكن على علم بهم، وإلا لقالوا لليهود إن ذلك من تراثنا، ومن ثم فسوف يكون بمستطاع محمد الإجابة على السؤال فلا يحصل المراد من التحدى، ألا وهو تكذيبه فى قوله إنه يتلقى الوحى من السماء. أليس هذا هو ما يُفْهَم بكل جلاء من التحدى؟
ثم ينبغى ألا يفوتنا أن الوفد القرشى الذى ذهب إلى يثرب لمقابلة أحبار اليهود فى هذا الشأن كان مكونا من النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، أو على الأقل كان النضر وعقبة على رأسه، وهذا موجود فى النص الذى نقله د. أركون عن الطبرى (ص157). ونحن نعرف أن النضر كان يتهم الرسول بأنه إنما يقص فى قرآنه أساطير الأولين، وعلى هذا فإن النضر لا بد أن يكون حريصا على ألا تكون الأسئلة التى يعود بها من يثرب هى من أساطير الأولين التى يمكن أن تطولها يد محمد.
أما قول أركون إن هذه الحكايات الثلاث كانت مغروسة بعمق فى الذاكرة الجماعية العتيقة لشعوب الشرق الأوسط، فهو كلام فارغٌ أفرغُ من فؤاد أم موسى!
لو كان ما يزعمه أركون صحيحا ما فكر أحبار اليهود الخبثاء أن يحرّضوا قريشا على تحدى الرسول بهذا السؤال، فالإنسان لا يقدم على مثل هذا التحدى الخطير إلا وهو موقن أن الخصم لن ينجح فى الجواب. أليس ذلك كذلك يا بروفيسير؟
وهب أن هذه النقطة قد فاتت اليهود، وهم أخبث أهل الأرض فلا يمكن أن تفوتهم، أفكانت تفوت مشركى قريش؟
وعندنا أيضا الشعر الجاهلى، وهو يخلو من الإشارة إلى أى من الحكايات الثلاث.
ثم كيف نفسر تحير المفسرين فى شرح معنى "الرقيم"، وفى تحديد مكان الكهف، وفى معرفة الشخصية الحقيقية للعبد الصالح بل لموسى نفسه، وفى التعرف على مواضع البلاد التى بلغها ذو القرنين والأقوام الذين قابلهم ... إلخ؟
كل هذا يجعلنا نلقى بنظرية "المخيال الجماعى" أو "الذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوسط" فى القُمَامة، وضمائرنا مطمئنة.
على أن د. أركون، عندما يدَّعِى أن محمدا قد استمد هذه القصص الثلاث من تراث البيئة التى ينتمى إليها، إنما يردد هنا أيضا مايقوله المستشرقون، الذين لا يكفّ أبدا عن التنفج بأن منهجه يتجاوز مناهجهم ويصل إلى نتائج لا يستطيعون أن يتوصلوا إليها بهذه المناهج. فهذا هو كاتب مادة " Ashab al-Kahf: أصحاب الكهف"، فى الطبعة الثانية من " Encyclopaedia of Islam"، يقول إن "محمدا قد ألمَّ بهذه الحكاية وكثير غيرها من الحكايات ذات الأصول اليهودية والنصرانية، ثم تمثَّلها واتخذ منها فى القرآن أداة للتربية الأخلاقية".
ـ[الجندى]ــــــــ[05 Feb 2005, 02:37 ص]ـ
وأخيرا نختم بهذه الطرفة الأركونية: فبروفيسيرنا، بعبقريته البديعة التى لم تأت بمثلها ولاّدة، يتصور أن القرآن، عندما يقول: "إنما مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تَذْروه الرياح" إنما يريد أن يشبه سرعة زوال الحياة الدنيا بسرعة زوال المطر (ص149).
فانظر بالله عليك إلى الرجل: كيف يتصدى لمناطحة القرآن، وهو لا يستطيع أن يعرف الطرف الثانى من التشبيه فى هذه الصورة البلاغية؟
¥