كذلك يدَّعى زورا وبهتانا أنهم لم يتنبهوا إلى أن فى القرآن مجازا واستعارات، وأنهم جميعا، من سنة وشيعة وإباضية ... ، كانوا يأخذون "كلام النص على حقيقته وكأنه خالٍ من المجاز. هذا فى حين أننا نعلم أن النص
الدينى ملىء بالمجاز، بل وينفجر بالمجازات والاستعارات الخارقة والرائعة" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 192).
والواقع أن من الصعب علىّ أن أعرف عن أى مفسرين يتكلم د. أركون، فالمعروف أنهم كلهم تقريبا يفسرون آيات الجوارح الإلهية على أنها من باب المجاز، فما بالنا بالآيات التى لا تتعلق بهذا الموضوع ولا تثير أية حساسية فى تحليلها مجازيا؟
ومرة أخرى نرى أركون يناقض نفسه فى موضع آخر قائلا عن "المجاز" إنه "قد دُرِس كثيرا بصفته أداة أدبية لإغناء
الأسلوب فى القرآن وتجميله"، وإنْ أضاف أنه "لم يُدْرَس أبدا فى بعده الإبستمولوجى بصفته محلا ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التى تصيب الواقع" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 98)، فضلا
عن اعترافه بأن من المفسرين من كان يتناول القرآن تأويلا رمزيا باطنيا فى مقابل من يأخذونه على ظاهره وحرفيته (الإسلام- أوربا- الغرب/193).
وفى النهاية أُحِبّ أن أؤكد أننى لا أعادى العلوم الجديدة كما قد يظن خطأً بعض من يقرأ هذه الدراسة لما يجده فيها من تهكمات على البروفيسير أركون فيحسب أنى أتهكم على تلك العلوم.
والواقع أنى إنما أتهكم على من يظنون أن هذه العلوم هى فكرٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبخاصة إذا تسرعوا فى تطبيقها على النص القرآنى متصورين أن كلمتها حاسمة فى هذا الموضوع لا ينبغى أن تناقَش، فضلا عن أخطائهم القاتلة فى التطبيق نتيجة لضعف إحاطتهم بالقضايا التى يناقشونها ولما دخلوا به الحَلْبة من موقفٍ مسبقٍ وهوًى فاشٍ غلابٍ لا يخفى على كل من له عينان!
كذلك لست أنا بالذى يضيق بمناقشة النص القرآنى، وإلا لتجاهلت ما كتب الرجل وأمثاله ممن يعملون على التشكيك فى كتاب الله من مستشرقين ومبشرين وتابعين لهم من أبناء الإسلام الناشزين عليه ولما قارعت شبهاتهم بحججى شبهة شبهة لا أجمجم ولا أورِّى ولا أنادى أبدا بوجوب الابتعاد بالنص القرآنى عن المناقشة أو حتى التشكيك، بل أرهق نفسى وأغوص هنا وهناك فى كل المصادر والمراجع التىتتصل بالموضوع، مع عدم الرضا فى نهاية المطاف عما فعلتُ لمعرفتى أننى، مهما صنعتُ، فلن أوفى الموضوع حقه من البحث والجلاء.
إن كاتب هذه السطور، على العكس من ذلك، يجد لذة عجيبة ورائعة فى قراءة مثل هذه الكتابات، إذ أراها فرصة لمراجعة نظرتى السابقة إلى ما أومن به لعلى أرى شيئا جديدا أضيفه لعلمى أو اقتناعى ... إلخ، فضلا عن أنها تحرك منى العقل، وحركةُ العقل عند من يعرفون قيمة هذه النعمة الإلهية لا يمكن تقديرها بمال!
ولعل القارئ يرى الفرق بين الطريقة التى يتبعها د. أركون وتلك التى أتبعها أنا، فهو فى كثير من الأحيان يلقى بحُكْمه لا يبالى أين يقع ولا كيف، ودون أن يكلّف نفسه إقامة الدليل على ما يقول أو الرجوع إلى أهل الاختصاص ليسترشد بما قالوا، بل دون أن يهتم مثلا باستنطاق المعاجم أو الاستعانة بالشواهد. وهذا ما
يزعجنى فى كتاباته. إنها كتابات متسرعة لا ترفدها قراءات واسعة وعميقة بالرغم من الشقشقات الفارغة بأسماء العلوم ومصطلحاتها مما يحسب أنه يلقى الرهبة فى قلوب قرائه من أبناء العرب الذين يمثلون التخلف فى نظره لعدم انسياقهم معه وراء مايهرف به الغربيون فى ديننا وكتابنا، وفوق ذلك فهى كتابات منفوخة غرورا جَرّاء إحساسٍ حادٍّ ومتضخمٍ بالذات قائم على غير أساس كما أَثْبَتُّ فى هذه الدراسة!
أما العلوم الجديدة فمرحبا بها وأهلا وسهلا، على أن نظل مفتَّحى الأعين والعقول والقلوب قلا نتحول إلى عبّاد لها كأننا وثنيون فى معبد أصنام.
لقد وقفتُ مثلا ضد ما كان د. محمد مندور قد كتبه فى بداية أربعينات القرن الماضى داعيًا إلى إبقاء النقد الأدبى بعيدا عن العلوم، وبخاصة علم النفس، الذى قال إن نتائجه غير نهائية ولا تنطبق على المتميزين من البشر كالأدباء
مثلا، علاوة على أن محاولة تطبيقه فى ميدان النقد الأدبى معرَّضة للخطإ. وكان رأيه أن النقد لا ينبغى أن يستند إلى أى شىء سوى الذوق الأدبى، الذى أكد أنه لا يمكن اكتسابه على نحو مُرْضٍ إلا من خلال قراءة النصوص الأدبية.
أما أنا فقد قلت إن النقد الأدبى يحتاج، فوق هذا، إلى أن نتذرع له بكل ما يمكننا تحصيله من علوم ومعارف، وأضفت أنى، رغم موافقتى للدكتور مندور على إمكانية الوقوع فى الخطإ عند تطبيق نتائج علم النفس على الأدب ونصوصه، أرى أن ذلك لا ينبغى أبدا أن يخيفنا، فهذه طبيعة الحياة، لا فى مجال النقد الأدبى فقط، بل فى كل المجالات، إذ لا بد أن تقع الأخطاء مهما احترزنا وأخذنا كل الاحتياطات اللازمة.
ومع أنى كنت شديدا فى محاسبة أحد الأطباء النفسيين الذين أخطأوا فى تطبيق بعض مُعْطَيَات علم النفس على شِعْر المتنبى فقد ظللت على رأيى المبدئى فى وجوب الاستعانة بعلم النفس وغيره من العلوم فى مجال النقد رغم ذلك.
ويجد القارئ الكريم كل هذا فى مفتتح الفصل الثالث من كتابى "مناهج النقد العربى الحديث"، وهو الفصل الخاص بـ"المنهج النفسى" (مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 79 وما بعدها).