إن المشبَّه به ليس هو الماء النازل من السماء، بل هو نبات الأرض الذى سيؤول رغم كل شىء فى النهاية إلى هشيم! أما ذِكْر ماء السماء فى الآية فلأنه هو الذى يساعد البذور على النمو ويخرجها من باطن الأرض نباتًا يغزر ويملأ الأراضى والحقول!
ليس ذلك فحسب، بل إنه ليُقَوِّل كتابَ الله ما لم يقله، إذ يزعم أن "القرآن يلحّ فى أكثر من مكان على أهمية اللغة العربية ومزاياها من أجل التركيز على تمايزه واختلافه قياسا إلى الوحى السابق عليه" (الإسلام- الغرب- أوربا/ 80). ويجد القارئ هذه التقولات الكاذبة أيضا فى كتابه: "تاريخية الفكر الإسلامى" (مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 69)، حيث نقرأ أن مسألة "المكانة المتميزة والخاصة للّغة العربية بالقياس إلى اللغات الأجنبية ... غالبا ما وردت فى القرآن. ذلك أنه كان من الضرورى تبرير اختيار اللغة العربية لنقل الوحى إلى البشر من دون سواها، ثم البرهنة على فكرة إعجاز النص القرآنى وعدم قدرة البشر على تقليده أو الإتيان بمثله".
ترى أين نجد ذلك فى القرآن؟
إن كل ما يمكن أن يفكر الإنسان فيه فى هذا السياق هو وصف القرآن لنفسه بأنه قد نزل "بلسان عربى مبين"، ومعناه أن أسلوبه هو أسلوب عربى كله جلاء ووضوح. فالكلام، كما نلاحظ، عن أسلوب القرآن لا عن تميز اللغة
العربية وتسويغ انتقائها لغةً للوحى القرآنى!
أرأيت، أيها القارئ الكريم، كيف أن د. أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى، يجهل المضمون القرآنى إلى هذا
الحد، ثم هو يتنفج مع ذلك على المفسرين والمفكرين المسلمين نافشا ريشه عليهم.
ثم إنه، بعد ذلك كله، لا يترك المفسرين المسلمين فى حالهم رغم عجزه الفاضح عن مساماتهم، بل يتنقص منهم ويفترى عليهم المفتريات المضحكة، إذ يزعم أنهم، حين يتناولون القرآن بالتفسير، يعتقدون أنهم إنما يعبرون عن مقصد الله على نحو متطابق. وهذا واضح، حسب كلامه، فى أن الطبرى، بعد أن يورد الآية التى يتناولها بالتفسير، يضيف الكلمتين الآتيتين: "يقول الله تعالى: ... "، ثم يضع نقطتين على السطر، ويذكر تفسيره للآية على أساس أن ذلك هو مقصد الله، غير واع أن ما يقوله إنما هو مجرد تأويل من التأويلات التى تقبلها الآية (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/235 - 236،291 - 292).
ووجه الافتراء هنا أن مفسرينا، على الضد من ذلك، كانوا واعين تماما أن ما يقولونه لا يعدو أن يكون مجرد
اجتهاد. وهذا واضح من أنهم، بعد قولهم كلمتهم فى تفسير الآية، يردفونه عادة بقولهم: "والله أعلم".
ومعروف عن الطبرى، الذى حظى بالنصيب الأكير من هجوم أركون، أنه كان يورد أولا كل الأقوال فى النقطة التى يتناولها فى الآية، سواء كانت لغوية أو تشريعية أو خاصة بأسباب النزول، ثم يوازن بينها قبل أن يقول كلمته هو، التى يقدم لها بالعبارة التالية: "وأولى الأقوال عندى بالصواب قول من قال كذا وكذا" أو ما يشبهها. فأين التعصب الذى يدعيه أركون عليه والاعتقاد بأن ما يقوله هو مقصد الله على وجه التطابق؟
أما القرطبى فهو، بعد إيراده الآراء المختلفة فى الآية، يعقب فى الغالب قائلا: "والرأى الفلانى أصح". كما يقول عادة: "فإن صحَّ هذا فيكون الأمر كذا وكذا"، أو "والله الموفق للصواب"، أو "والله أعلم"، بما يفيد أن المسألة لا تعدو عنده الترجيح بشروطه لا أكثر، وهو ما يكذِّب دعوى أركون على المفسرين القدماء وينسفها من جذورها، وإن لم يعن هذا أنهم لم يكن لهم موقف أو رأى خاص يتمسكون به ويناضلون دونه ويرَوْن أنه هو الرأى الأفضل، إذ إن هذه طبيعة بشرية فينا جميعا. لكن هذا شىء، والزعم بأنهم كانوا يظنون أن ما يقولونه فى تفسير الآية هو مقصد الله سبحانه، وأنهم قد احتكروا الحقيقة المطلقة، شىء آخرمختلف تمام الاختلاف!
وقد أشار د. أركون إلى شىء من هذا حين كان يتكلم عن الرازى ومحاولته العثور على الصلة التى تربط الآية التاسعة من سورة "الكهف" بالآيات التى سبقتها، إذ قال: "أما المفسر فخر الدين الرازى فيقترح وجود تمفصل مع الآية السابقة، ولكنه يبدو غير واثق تماما فيضيف قائلا: والله أعلم" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل
الخطاب الدينى/ 148).
¥