والإشكال الثاني: وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له؟
والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز.
إيضاح جواب الرازي (عفا الله عنه):
ما أورده المستشكل نوع من السفسطة، فإنهم بنو نتيجتهم على مقدمتين:
المقدمة الأولى: ان جبريل يؤيد عيسى في أكثر أحواله.
المقدمة الثانية: أن التأييد له صورة واحدة وهو إماتة أعدائه وإهلاكهم.
النتيجة: أن الله لم يرفع عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهذا من أقبح القياس وابعده عن معيار العلم ومنهاج العقل، في مقدماته ونتيجته، فإن الله تعالى أيده بروح القدس ونصره به، والتأييد عام ليس مخصوصا بصورة معينة، والتاييد إنما يكون عند حاجة عيسى إليه، والله تعالى قد أغنى عيسى عن تاييد جبريل برفعه إليه، فاين ترك جبريل لتأييد عيسى عليهما السلام.
وأما قولهم إن عيسى كان قادرا على إحياء الموتى.
فإن قالوا إنه قادر قدرة مطلقة كقدرة الله تعالى كفروا وتحولنا إلى موضع آخر للمناظرة في تأليههم لعيسى والقول بربوبيته
وإن قالوا لم يكن قادرا إلا بقدرة الله تعالى وما أعطاه الله من ذلك بطل إشكالهم، وعدنا إلى الكلام على مقتضى الحكمة فإعطاء الله عيسى القدرة التي يدفع بها أعدائه يتحول به الغيب إلى العيان، وينتفي التكليف، ويصير الإيمان ضروريا ملجئا، وتنتفي الحكمة من ابتلاء الخلق
والإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟
جواب الرازي:
فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.
قلت: إلقاء الشبه فيه فوائد كثيرة منها:
أن الدنيا لا يكشف فيهاعالم الغيب، بل هي ابتلاء للمؤمنين، واختبار تصديقهم للأنبياء بالإخبار بالغيب، ولو أن عيسى رفع أمام الناس ولم يلقى الشبه انتفى وجه الامتحان والاختبار، ورضخ الناس لقهر عالم الشهادة وصار إيمانه l إيمانا اضطراريا كإيمان من يرى النار عيانا يوم القيامة
ومنها بيان قدرة الله تبارك وتعالى على تخليص المؤمنين بألطاف القدرة وتنوعها مما يظهر معه كمال لطفه وقوته وقدرته، فقد اجتمت في هذه الصورة القدرة على الرفع والقدرة على المكر بالأعداء والتوصل إلى المقصود بألطف الأسباب التي تظهر فيها آثار صفاته الجليلة سبحانه وتعالى.
ومنها إن كان الشبه إلقى على أعداء عيسى عليه السلام ففيه من المكر بهم والإحاطة وقهرهم ما هو ظاهر
وإن كان من أصحاب عيسى ففيه من الرفعة والابتلاء واتخاذ الشهداء ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة
والإشكال الرابع: أنه إذا ألقى شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
إيضاحه:
وأصرح منه قول عيسى عليه الصلاة والسلام وبيانه فإنه أخبرهم وهو نبي خبره قطعي، ولكنهم بدلوا وحرفوا كما حرفوا دعوته ورسالته بالكلية
كما قال الله تعالى:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (72) سورة المائدة
والإشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوّة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل.
جواب الرزاي عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم.
قلتِ:
التواتر المعتبر هو الخبر الذي ينقله العدد من الناس مع عدم احتمال تواطئهم على الكذب، وبقاء التواتر في كل طبقة من طبقات النقل،
وأين كل النصاري من إثبات تواتر في كل طبقة من طبقات الإسناد
فاختل تواترهم بأمرين
انقطاعه، وتوفر الدواعي على التواطؤ على الكذب
ولو قلنا بأن تواطؤ الجماعات على أمر يفضي إلى القطع به
لصدقنا المشركين الذين تواطؤوا على الشرك بعد نوح
والإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع، ولقال: إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره، ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم
والجواب عن السادس: إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة
قلت وإن كان كافرا لم يمنع أن يتركوا تصديقه لقيام الحس المفيد للقطع عندهم على الخبر المفيد للظن والله تعالى أعلم
¥