تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتركيب الجملة المفيدة بعد ذلك، هما اللسان والشفتان، ولكل منهما وظيفة مستقلة في تركيب أصوات الحروف الخاصة بكل منهما على انفرادٍ، ولا يشترك أحدهما في وظيفة الآخر، أو يتدخّل في واجب صاحبه، بل ولا يستطيع أحدهما أن يصنع حرفاً واحداً هو ليس من اختصاصه، فاللسان مجرّداً من الشفتين عاجزٌ عن لفظ كلمة (باب) والشفتان وحدهما من دون اللسان عاجزتان عن لفظ كلمة (زار) .. وهكذا فإن الكلمة المركّبة من حروفٍ متنوعةٍ في كلمة (زُبُر) لا يمكن لفظها إلا باشتراك اللسان والشفتين في صناعتهما في آن واحد، وجنباً إلى جنب، وكل منها يؤازر الآخر، فكلام الإنسان الذي يتكوّن من آلاف الكلمات والجمل والسطور، لا يمكن له أن يتمّ إلا إذا اجتمع اللسان والشفتان معاً، وفي آنٍ واحدٍ، لصناعة أصواتِ حروفها، فيتمتع بروعة اللفظ، ويحسّ بنعمة النطق. أمّا إذا حدث أيّ خللٍ في عضلات اللسان، أو أعصاب الشفتين، فإن الإنسان يفقد نعمة النطق السليم، والكلام العذب .. كما يفقد روعة الرؤية، ويُحرم من بهجة جمال الطبيعة، لو عجزت إحدى العينين عن الرؤية، وقام الإنسان بالنظر بعين واحدة" (13).

خاتمة:

إن النصّ القرآني حافلٌ باللمحات العلمية التي لا تتعارض معها النظريات العلمية، لكن الحفاوة الكبيرة والمبالغة بالعلم البشري لا تقتضي افتعال صلاتٍ بين النص القرآني والنظرية العلمية، مهما كانت درجة صحة النظرية، لأن الحقائق لا تفسّر إلا بمثلها من الحقائق المماثلة والمسلّمات الثابتة، ولأن منهج القرآن، ومنطقه وأسلوبه في عرض المشاهد الكونية، هو السرد الموجّه "إلى الناس كافةً، على اختلاف ثقافاتهم أو تفاوت وعيهم، وتعدّد تخصّصاتهم، ولما كانت العبرة والعظة والتسليم بقدرة الله هي الأمور المستهدفة من العرض القرآني، فإن ما يطرحه القرآن في هذا الصدد، لا يعدو أن يكون مشاهداتٍ يوميةً يُدركها الجميع، ولا تُخفي عليهم لمحة الإبداع فيها".

لذلك لا يصحّ رفض المنطق الديني، بل يجب الالتزام به، كما أنّ فرض الرؤية الدينية على الاكتشافات العلمية، وحتى النظرية، هو عمل تلفيقي، يؤول إلى تحديد إمكانية العلم، لإخضاعه لمنطقٍ من خارج نطاق العمل المحدّد الذي يسعى إلى تطوير نتائجه، وأبحاثه من خلال التجربة، فلا مسوّغ لفرض التجربة الدينية على التجربة العلمية أو العكس، لأن أيّ فرض يقلّل من حقيقة تلك التجربة، ومعناها، كما أن القيمة الدينية تتحوّل إلى علاقةٍ لا يمكن فهمها إلا من خلال فرض مفهوم علمي عليها. وهذا غير صحيح.

أمّا "إذا سرنا في الأرض، ونظرنا في الآفاق، وتحقق لنا بعض ما نقصده من الكشوف العلمية، وتوصلنا إلى تأكيد بعض النظريات أو القوانين التي تفسّر، وتحكم مشاهد الطبيعة التي نراها، ونتعامل معها، فإننا نكون قد وصلنا إلى موضع العظة والعبرة، والتفتنا إلى قدرة الله، ودلائل وحدانيته، أمّا أن يلجأ بعضهم إلى تجاوز هذا الهدف .. ومحاولة ردّ هذه المكتشفات إلى القرآن، والادّعاء بأنها قد وردت فيه بكل خباياها وتفاصيلها، فذلك زعمٌ يستحيل القبول به، ويحرم السكوت عنه" شرعاً.

ومن ثمّ "فإن اكتشافنا اللاحق للقوانين التي تحكم هذه الظواهر الكونية لا يضفي شيئاً على مدلولات النص القرآني؛ ذلك لأن العظة في أيّ ظاهرةٍ تتمثّل في وجود الظاهرة ذاتها، وليس في اكتشاف القانون الذي تقوم عليه، وإذا كان ثمّة قيمةٌ وراء اكتشاف القانون العلمي الذي تطّرد على أساس منه العلاقة بين مجموعةٍ من الظواهر، أو تعمل وفقاً له ظاهرةٌ ما. فإنها تكمن في كون هذه الاكتشافات شهادةً مُحدثةً بعظمة العقل البشري وتطوّره، أمّا عظمة خالق الظواهر والقوانين التي تحكمها، فإنها عظمةٌ أزليةٌ كانت قبل وجود هذه الظواهر، وثبتت بوجودها، وقَبِلها العقل البشري، وسلّم بها منذ بدأ الإنسان يلمس هذه الظواهر، ويتعامل معها، حتّى لو لم يُدرك كنهها، أو يفهم القواعد التي تعمل وفقاً لها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير