قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أيها الناس، إياكم والغلو في عثمان. تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولي، لفعلت مثل الذي فعل ". (1)
هذا القول من الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ يؤكد أن أمر حرق المصاحف، كان باتفاق المسلمين وإجماعهم. وأن من اعترض في البداية ـ كما هي عادة كل مجتمع ـ انصاع إلى الحق، وهدأت نفسيته، واطمأنت سريرته حينما أدرك بعد نظر الإمام الراشد عثمان رضي الله عنه، وأن مصلحة المسلمين العامة، مقدمة على مصلحة أفراد الناس الخاصة، وإن كانوا من كبار الصحابة .. فصفو المجتمع خير من كدر الفرد.
وكان سيدنا عثمان ـ رضي الله عنه ـ أول المطبقين لما أجمع عليه الصحابة، حين بعث إلى الأمصار قائلاً: " إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم ". (2) فكان النموذج الأعلى والقدوة الأسمى لغيره، فهو رغم أنه يملك سلطة الإبقاء على مصحفه، أو وضعه في مكان لا يُرى، إلا أنه أبى إلا مصلحة المسلمين.
ثانياً: شبهة مخالفة ما ورد في بعض مصاحف الصحابة للمصحف العثماني:
قبل الشروع في تفصيل أشهر ما نُسب إلى مصاحف الصحابة من مخالفة للمصحف الذي بين أيدينا، ينبغي الإشارة إلى اتفاق كل المسلمين على تعريف القرآن الكريم بأنه: " كلام الله المعجز المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر ". (3)
وضابط النقل بالتواتر ـ بصفته أحد شروط القرآن الكريم ـ يمنع الاعتراف بقرآنية أي رواية تدل على كون آيات أو آية أو كلمة أو حرف أو حركة إعرابية جزءاً من القرآن الكريم، المتعبد بتلاوته إن لم تكن متواترة.
إن كل ما يذكره أولئك المشككون في عصمة القرآن الكريم، مطالبون بإثبات تواتر أي رواية يدعون أنها تدل على تحريف ـ بالزيادة أو الحذف ـ في القرآن الكريم.
لقد حرص المسلمون ـ منذ بداية الجمع الأول للقرآن الكريم في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ كما سبق بيانه ـ على وجوب تحقق شرط التواتر لأي حرف يكتب في المصحف الشريف. واستمر المسلمون على ذلك محافظين على نقاء المصحف الشريف من كل دخيل. يشترطون لناسخ المصحف الشريف ـ وطابعه ـ شروطاً شديدة، هي نهاية ما توصل إليه المنهج العلمي في الدقة والضبط.
وبعد هذا الرد المجمل .. سأكتفي بالرد التفصيلي لأشهر ما نسب إلى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في مواقع الإنترنت التنصيرية من مخالفة للمصحف العثماني وهما: دعوى إنكار عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ للمعوذتين والفاتحة، ودعوى إثبات أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ دعاء القنوت في مصحفه، ويمكن الرد على مثلها بالقياس عليها.
أ) مصحف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وزعم خلوه من الفاتحة والمعوذتين: (4)
1. كان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لا يرى وضعها في المصحف، ولا يوجد أي أثر يدل على كونه أنكر أنها من القرآن، ما أنكره هو كتابة السور الثلاث (المعوذتين والفاتحة) لأنه لم يسمع نصاً صريحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك. (5)
2. هذا خبر آحاد لا يثبت قرآناً ولا ينفيه، فالمتواتر أقوى من الآحاد عند الترجيح يقيناً. فلا يثبت الآحاد عند معارضته بالمتواتر.
3. على فرض صحته، فقد خالف إجماع الصحابة. وتخطئة الفرد، مقدّمة على تخطئة المجموع.
4. لم يثبت أبداً أن أيا من الصحابة غيره قد شكك في قرآنية المعوذتين، ولو في حديث ضعيف.
5. سورة الفاتحة يجب أن يحفظها كل مسلم، فلا صلاة بدون فاتحة الكتاب. فكيف كان عبد الله ابن مسعود يصلي، ويؤم الناس؟
6. إن إنكار سورة من القرآن الكريم توجب الحد أو التعزير من الخليفة، ولم يثبت أن الخليفة أدانه بسبب قوله هذا.
7. لا يمكن أن يسكت عامة المسلمين على من يقول بعدم قرآنية الفاتحة والمعوذتين في وقتنا هذا. فكيف إن كان في خير القرون؟
8. الروايات المسندة إلى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كلها فيها الفاتحة والمعوذتين، فهي دليل على أنه كان يعلمها للناس ويحفظهم إياها مع القرآن الكريم.
ب) مصحف أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ وزعم زيادة دعاء القنوت فيه: (6)
1. هذه رواية آحاد لا تنقض المتواتر. ولا يجوز أن تعد قرآناً، لفقدها شرط التواتر كما سبق بيانه في تعريف القرآن الكريم. فالآحاد لا يُثبت قرآناً.
2. لو كانت من القرآن الكريم، لتوفرت همم الصحابة ودواعي حفظهم لها.
¥