((ولم يعدّ ابن عباس أولئك الكتابيين الذين دخلوا في الإسلام، حججاً فقط في الإسرائيليات وأخبار الكتب السابقة، التي ذكر كثيراً عنها الفوائد، بل كان يَسأل أيضاً كعب الأحبار مثلاً عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين: (أم الكتاب) و (المرجان).
((كان يُفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود، فهم أدق للمدارك الدينية العامة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول، وكان يُرجَع إلى أخبارهم في مثل هذه المسائل، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم)).
هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلوه المفرط بشأن مُسلمة اليهود، ودورهم في التلاعب بمقدرات المسلمين، الأمر الذي لا يكاد يصدق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء، إنما كان ذلك في عهد طغى سطو أمية على البلاد وقد أكثروا فيها الفساد.
وقد تابعه على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين، قال: ولم يتحرج كبار الصحابة مثل ابن عباس من أخذ قولهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)). ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم! وإن شئت مثلاً لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة).
وعقبه بقوله: وقد رأيت ابن عباس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه، إشارة إلى ما سبق من قوله: وأما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن، وأكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، أسلم في خلافة أبي بكر أو عمر ـ على خلاف في ذلك ـ وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام. وقد أخذ عنه إثنان، هما أكبر مَن نشر علمه: ابن عباس ـ وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة.
نقد وتمحيص:
وإنا لنأسف كثيراً أن يغتر كتابنا النقاد ـ أمثال الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الذهبي ـ بتخرصات لفقها أوهام مستوردة، فلنترك المستشرقين في ريبهم يترددون، ولكن ما لنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم ونواكبهم في مسيرة الوهم والخيال؟!
لا شك أن نبهاء الصحابة أمثال ابن عباس كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب ويستقذرون ما لديهم من أساطير وقصص وأوهام، وإنما تسربت الإسرائيليات إلى حوزة الإسلام، بعد انقضاء عهد الصحابة، وعندما تسيطر الحكم الأموي على البلاد لغرض العيث في الأرض وشمول الفساد، الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود ومَن تبعهم من سفلة الأوغاد.
إن مبدأ نشر الإسرائيليات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص، حاشا الصحابة وحاشا ابن عباس بالذات أن يراجع ذوي الأحقاد من اليهود، ويترك الخلص من علماء الإسلام.
إن ابن عباس كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة بغية العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وقد سئل: أنى أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول.
وإليك من تصريحات ابن عباس نفسه، يحذر مراجعة أهل الكتاب بالذات، فكيف يا ترى، ينهى عن شيء ثم يرتكبه؟!
التحذير عن مراجعة أهل الكتاب:
أخرج البخاري بإسناده إلى عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس، قال: ((يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أُنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرأونه لم يشب (أي لم يخلطه شيء من غير القرآن)، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند اله ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم منن العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم)).
وأخرج عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم)).
وأخرج عبدالرزاق من طريق حريث بن ظهير، قال: قال عبدالله بن عباس: ((لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل)).
¥