وهذا الحديث وضح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم، لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، فلا يمكن تصديقهم، لأنه ربما كان تصديقاً لباطل، ولا تكذيبهم، لأنه ربما كان تكذيباً لحق، فالمعنى: أن لا يُعتبر من كلامهم شيء ولا يترتب على ما يقولونه شيء. فلا حجية لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق، إذن فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجه من الوجوه.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبزاز من حديث جابر، أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)). وفي رواية أخرى: ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ... )).
تلك مناهي الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة في المنع عن مراجعة أهل الكتاب إطلاقاً، لا في كبير ولا صغير، فهل يا ترى أحداً من صحابته الأخيار خالف أوامره وراجعهم في شيء من مسائل الدين والقرآن؟! كما حسبه الأستاذ أحمد أمين، زعم أن العمل كان على ذلك، وأنهم كانوا يصدقون أهل الكتاب وينقلون عنهم!
وأما الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عباس لليهود، فكله باطل وزور، لم يثبت منه شيء.
أما الذي جاء به الأستاذ مثلاً من قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) قال: فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير الآية.
فقد راجعنا تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرها من أمهات كتب التفسير بالنقل المأثور، فلم نجد فيها ذكراً لكعب ولا مساءلته من قبل أحد من الأصحاب، أو غيرهم من التابعين أيضاً. ولم ندر من أين أخذ الأستاذ هذا المثال، ومن الذي عرفه ذلك، فأوقعه في هذا الوهم الفاضح.
وأما قوله: كان ابن عباس يجالس كعب الأحبار، وكان أكثر من نشر علمه ... ، فكلام أشد وهماً وأكثر جفاءً علىم ثل ابن عباس الصحابي الجليل، إذ لم نجد ولا رواية واحدة تتضمن نقلاً لابن عباس عن أحد من اليهود، فضلاً عن مثل كعب الأحبار الساقط الشخصية.
نعم، أشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد، زعم فيها مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب، ولعلها كانت مستند الأستاذ أحمد أمين تقليداً من غير تحقيق. ولكنا راجعنا تلك الموارد، فلم نجدها شيئاً، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
منها: أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيين: أم الكتاب، والمرجان.
روى الطبري بإسناده إلى عبدالله بن ميسرة الحراني: أن شيخاً بمكة من أهل الشام سمع كعب الأحبار يُسأل عن المرجان (الرحمان/ 22) فقال: هو البسذ.
لكن من أين علم جولد تسيهر أن الذي سأل كعباً هو شيخ مكة وزعيمها ابن عباس؟!
وكذا رُوي عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن شيبان، أن ابن عباس سأل كعباً عن أم الكتاب (الرعد/ 39) فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملن، فقال لعلمه: كن كتاباً، فكان كتاباً.
غير أن شيبان هذا ـ هو ابن عبدالرحمان التميمي مولاهم، النحوي أبو معاوية البصري المؤدب، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد ـ مات في خلافة المهد سنة (164) وكان من الطبقة السابعة، وعليه فلم يدرك ابن عباس المتوفى سنة (68) ولا كعب الأحبار الذي هلك في خلافة عثمان سنة (32). فالرواية مرسلة لم يعرف الواسطة، فكانت ساقطة عن الاعتبار.
وأيضاً رُوي عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه، أن ابن عباس سأل كعباً عن قوله تعالى: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) و (يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) فقال: هل يؤودك طرفك؟ هل يؤودك نفسك؟ قال: لا، قال: فإنهم ألهموا التسبيح، كما ألهمتم الطرف والنفس.
وعبدالله هذا هو ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأصبح من فقهائها، وتحول إلى البصرة ورضيته العامة، واصطلحوا عليه حين هلك يزيد بن معاوية. توفي سنة (84) بالأبواء ودفن بها، وكان خرج إليها هارباً من الحجاج.
¥