تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الجامع بين العلمانية والغنوصية هو " التأويل المنفلت ".

وسمعته أيضاً يعرف العلمانية بأنها " تنحية الأسئلة الكبرى " ولكن الذي بدا لي أن العلمانية بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة اقترحت تنحيتها لأنها بدأت تُعكِّر عليها سيرورة العلمنة. وهذه التنحية كارثة من كوارث العلمانية على الإنسانية لأنها الأسئلة الجوهرية للإنسان، بل هي محور إنسانيته، والمعنى الصميم لهذه الإنسانية، وتنحيتها حَطّم إنسانية الإنسان، وجعله مادة بلا هدف ولا غاية، يتقلب في ظلام الشك والحيرة، وبدد له كل أمل في السعادة.

ومن هنا رأيت أن تنحية الأسئلة الكبرى ليست تعريفاً للعلمانية وإنما نهاية من نهايات العلمانية، بل يمكن اعتبار هذه التنحية: إشهاراً للإفلاس، وإعلاناً للخيبة.

استبطنت في مرحلة من مراحل البحث التعريف القائل بأن العلمانية "" رؤية مادية بحتة للوجود بما فيه "" ولكن تذكرت أن باركلي لم يكن مادياً فقد أنكر المادة واعتبرها موجودة لأنها مُدرَكة فقط، وأن هيوم أنكر الروح والمادة ولم يعترف بأية حقائق ضرورية، وكذلك فإن جان جاك روسو كان ممثلاً للفلسفة المثالية، ومع ذلك كان لهؤلاء جميعاً إسهاماً بارزاً في علمنة الفكر الأوربي.

هذا بالإضافة إلى - ما أشرنا إليه سابقاً - من أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في المادية لأن العقل يؤكد وجود حقائق كونية ليست مادية يقوم عليها الوجود والعلم.

فالمادية سمة أساسية من سمات العلمانية ولكنها لا تُعبّر عنها تماماً وإن كان بروزها يكاد يجعل العلمانية تُختَزَل غالباً في هذه السمة.


سؤال:
هل يمكن (علمَنَة الإسلام) بنظرهم؟

في البداية يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: أن الشرائع السماوية أيضاً قصدت تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا فهل الأديان منخرطة على هذا الأساس في تيار العلمانية؟
والإجابة: أن الشرائع الإلهية تربط سعادة الدنيا بالسعادة في الآخرة، لذلك فسعادة الإنسان في الحياة الدنيا بمنظور الشرائع الإلهية ألا ينخرط في الملذات والشهوات والمُتع دون ضوابط وحدود لأن هذا سينغص سعادته في الآخرة.
لقد تركت هذه الدنيوية العلمانية أثرها حتى على الإسلاميين، فأصبحنا نُبرز كثيراً عناية الإسلام بالحياة الدنيا، ودعوته إلى عمارتها، والاستمتاع بالطيبات منها، ونتغاضى - مجاراة للعلمانيين - عن أن الإسلام في الأصل يدعو الناس إلى الآخرة عبر ممر الدنيا، وهذا لا يعني تخريب الدنيا، وإنما يعني التطلع إلى المستقبل الأبدي، وليس إلى الحياة العاجلة، وهذا ليس من شأنه أن يجعلنا نهمل عمارة الحياة الدنيا، وإنما من شأنه أن يُهذِّب نفوسنا ويسموَ بها عن الأنانية، ويطهرها من السخائم والعداوات والتنافس على المتاع الزائل والحطام الفاني.
وهنا يجدر بنا أن نتذكر قول أحد أقطاب الصوفية كتلخيص لموقف الإسلام من الحياة الدنيا " أن تكون الدنيا في يدك وليس في قلبك " وهذا بعكس العلمانية التي تريد أن تمزج الدنيوية بكل ذرة من ذرات الجسد الإنساني، وتغرسها في صميم قلبه، وتجعلها الملاذ الوحيد، والمعشوق الوحيد، والغاية النهائية للإنسان، ولا يخفى ما في ذلك من تكريسٍ للتنافس الأعمى بين البشر دولاً وأفراداً، وهو ما نعايشه اليوم، لأن البقاء للأقوى، وساحة البقاء في المنظور العلماني قاصرة على هذا العالم المحسوس فقط.
وتتجلى الدنيوية واضحة في الممارسات التأويلية التي تشتغل على النص القرآني فتحاول دائماً أن تحد من سلطانه الإلهي، وتبرز دائماً ما يؤكد على الاعتبارات الدنيوية في مسائل الميراث، والمرأة، والحجاب، والدولة والأخلاق، ويُبرَّر ذلك بمبررات دنيوية محضة مثل: مواكبة العصر، ومسايرة التحضر، وتطور الفكر. والنموذج الذي يُحتذى في كل ذلك هو الغرب، فكل ما عنده أصبح معيار التطور والتحضر والتقدم، وتغفل هذه الممارسات أو تتنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من الرسالة القرآنية، وفي حالات متطرفة فإنها تقوم بعملية مسخ وتشويه لهذا الجانب عن طريق " التأويل المنفلت " لتجعله يصب في خدمة الدنيوية أيضاً.
والخلاصة:
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير