ومن هنا فإن ما يرفضه العلماني هو المبادئ التي تقوم باسمها السيطرة، وليس المقصود سيطرة الدين أو رجال الدين، إن المرفوض هو أن تكون التعاليم الدينية هي التي ينبغي أن تشكل المعيار الأخير أو المرجع الأخير لكل القضايا الروحية والزمنية على حد سواء.
ولذلك فالعلمانية "" قد تعترف بأنه لا وجود لمؤسسة كهنوتية في الإسلام، ولكن ليس هذا ما يرفضه العلماني، لأن معيار رفضه هو كون الدين المصدر الأخير للتشريع، والمعيار الأخير للدولة الفاضلة ليس بالضرورة وجود كنيسة، لأنها تتصل بشيء أعمق من هذا بكثير: بالطابع الكلياني للدولة الدينية، فالمرجعية المطلقة لله [عز وجل] سواء أكان الوسيط بيننا وبين هذه المرجعية رجال إكليروس أو أنبياء، فالقضية هي: جعل الدين في نصوصه المقدسة المرجعية النهائية للحاكم في كل مجالات الحياة "". وما دامت وجدت مرجعية دينية فسيوجد رجال دين لهم نفوذ وممارسة للسيادة، وسلطة استبدادية، وإن لم يكن للدين على مستوى التنظير تأكيد لهذه السيادة، إلا أنه من الناحية العملية والممارسة لا بد من وجود مثل هذه السيادة النفوذية وأمثلة ذلك: دور الإفتاء وعلماء الدين الإسلامي والإكراهات التي يمارسونها ضد الحكومات. فالكهنوت سمة لازمة لكل الأديان ولا يستثنى من ذلك الإسلام.
وهكذا يبدو أن تطبيق القرآن فيه تكريس لسلطة طبقة من رجال الدين وبالتالي القضاء على أحد المبادئ الضامنة لاستقلالية الإنسان، واحتكار المعرفة في الشؤون الدينية التي تهم المجتمع، ولا فرق أن نسمي هذه الطبقة التي ستحتكر فهم الدين طبقة كهنوت أو علماء أو غير ذلك، لأن النص الديني لا يفسر ذاته، فالنتيجة هي ضياع حرية الإنسان وانهيار الاستقلالية المعرفية للعقل.
ولنا هنا أن نتساءل: إذا قوضنا المرجعية الإلهية والنبوية، وكرّسنا المرجعية العقلية البشرية، فسيكون للمُشرّعين البشر نفس الأهمية الكبرى، والنفوذ والسيادة والتسلط والدكتاتورية - إذا افترضنا أن هذه موجودة في المرجعية الدينية - وسيحل القانوني والمحامي بديلاً عن الشيخ والمفتي، والمغني والمطرب بديلاً للقارئ والمرتل، ولاعب الكرة بديلاً عن المفكر والعالم، والراقصة والممثل والمسرحي بديلاً عن المبدع والعبقري والمجاهد والجندي، وبالتالي فإن العلماني سوف يعود فيصبح لاهوتياً علمانياً من جديد يمارس لاهوت العلمانية وعلمانية اللاهوت بما في ذلك من تسلط وإرهاب ودكتاتورية وينشأ دين علماني جديد عقيدته الرسمية هي العلمانية ويرفع شعار التقدم والتنوير كإيديولوجيا تمارس سلطتها في سبيل فرض مصالحها تحت راية الرأسمالية أو الاشتراكية وهكذا فإننا عندما نلغي الله [عز وجل] لنُحل محله الإنسان في التشريع تكون خسارتنا فادحة دون أن نربح شيئاً.
ومع ذلك يظل العلماني يصر على أن "" الإنسان يمكنه بدون وحي إلهي أن يتدبر شؤون دنياه " والمقولة التي يسعى لتفنيدها هي أن "" الإسلام دين ودولة "". "" لأن المعرفة غير ممكنة إلا إذا قامت على أسس عقلية … فلا الوحي ولا الحدس ولا أية وسيلة أخرى قد يحلو لواحدنا أن يفترضها كمصدر للمعرفة يمكن أن تُتّخذ على أنها ذات أولوية على العقل، أو على أنها مستقلة عن العقل "". فإن "" للعقل استقلالية تامة عن كل ما يقع خارجه، فلا يمكن إخضاعه لرقابة دينية أو غير دينية، ولا يمكن لأية معايير من خارجه مهما كان نوعها ومضمونها أن تكون ذات أسبقية على معاييره، والعلماني الذي يستشهد بالقرآن أو السنة لدعم موقفه يتنازل تنازلاً كبيراً، لأن العلمانية في أساسها قائمة على أسبقية العقل على النص، ولأن المعيار الأخير للإلزام القانوني أو السياسي لدى العلماني ينبغي أن يكون مستمَداً من الأخلاق لا من الدين، والسبب هو أن المعرفة الدينية جائزة وممكنة، أما المعرفة الفلسفية فهي ضرورية، ولا يجوز اشتقاق الجائز من الضروري.
وإذا كان الأمر كذلك "" فإنه لا يمكننا من منظور عقلي أن نُلزم أنفسنا بالامتثال لأمر أو نهي ما ينطوي عليه نص ديني معين، إلا إذا وجدنا أن هذا تماماً هو ما تُلزمنا به الاعتبارات الأخلاقية الصحيحة، مما يجعل العودة إلى الاعتبارات الدينية والنصوص الدينية أمراً عديم الجدوى "".
ومعنى ذلك أن التوفيق بين العقل والنقل مرفوض لأنه تحصيل حاصل،فالتوفيق سيكون بين مبادئ عقلية تُوُصِّل إليها عن طريق العقل، ومبادئ عقلية متَضمَّنة في نصوص نقلية ولكن ثبت صدقها أيضاً عن طريق العقل.
ملاحظة: لقد ناقشت أطروحة عادل ضاهر السابقة في قرابة عشرين صفحة وهي تحتاج إلى تهيئة ومراجعة وقد يستغرق ذلك وقتاً.
..... يتبع
ـ[الجعفري]ــــــــ[09 Jan 2006, 06:49 ص]ـ
أرحب بالشيخ أحمد الطعان , كما أشكر الأخوة القائمين على هذا المنتدى وأقول للجميع الضيف والمضيف: جزاكم الله خيراً.
وسؤالي: الذي أفهمه أن العلمانية مذهب كفري يناقض الدين؛ فهل هذا الفهم صحيح على إطلاقه, وهل قولنا فلان علماني حكم عليه بالردة والكفر بناءً على أن العلمانية كفر بالدين.
بارك الله فيكم ونفع بكم.
¥