والمتأمل في الرؤيتين الاستشراقية والعلمانية يجد أنهما انعكاس للفلسفة المادية الوضعية التي كرّسها فلاسفة النهضة الأوربيين منذ ديكارت وسبينوزا إلى فيورباخ وماركس، ثم فلسفة الحداثة المعاصرة. لقد قال سبينوزا: يختلف الوحي عند الأنبياء تبعاً لمزاجهم وبيآتهم واحوالهم، فالنبي الفرح توحي إليه الحوادثُ السلامَ، والانتصارتِ، والنبي الحزين توحي إليه الشرورَ، والهزائم، والأحزان. فكان الصدى من د. حسن حنفي: الوحي عبارة عن مواقف إنسانية زاخرة بالأمل والمعاناة والجهد والفرح والألم وتجارب النفاق، والخداع، إنه قلقٌ وضيقٌ، وأملٌ وألمٌ وتوجعٌ يحس به الفرد. وكان الصدى من أركون "" الأنبياء كالشعراء والكبار، و "" كالفنانين الكبار "". وكان الصدى من نصر حامد أبو زيد "" فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على سواء، وليس معنى ذلك، التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي يأتي من دون شك في قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب "".
والآن يمكننا القول بأن الرؤى العلمانية والاستشراقية التي عرضناها حول الوحي لم تأت بجديد حول مفهوم الوحي أو الاعتراض عليه، وإنما هو تكرار لمواقف المشركين المُحتارة والمضطربة في معارضة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإن كان ثمة جديد فهو الصياغات التي تُعرَض بها التفسيرات الحديثة:
- فلقد قال المشركون شاعر، وقال المُحدَثون - مستشرقون وعلمانيون - شعور داخلي.
- وقال المشركون: مجنون، وقال المُحدَثون: صرع أو هلوسة، أو هوس.
- وقال المشركون: ساحر، وقال المُحدَثون: عبقري.
- وقال المشركون: كاهن، وقال المحدَثون: مصلح اجتماعي أو قائد فريد.
- وقال المشركون: أضغاث أحلام، وقال المحدثون: هذيان أو استبطان.
- وقال المشركون: بل افتراه، وإنما يعلمه بشر، وقال المحدثون، تعلم من بحيرا، أو من أهل الكتاب.
ثم تخلى كثير من المستشرقين عن افتراءاتهم. وسلموا بأن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسمى من كل ذلك وأن واقعة الوحي أجل من كل ما عرضوه من تخمينات أو تخرصات، ولكن العلمانيين لأنهم جاؤوا متأخرين فإنهم يحتاجون إلى بعض الوقت ريثما تزول الغشاوة عن العيون، وتنكشف الحقائق من بين الظنون " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ " [الرعد: 17].
وهكذا بقي أن الوحي كلام الله عز وجل نزل به جبريل على قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليبلغه إلى الناس، والله عز وجل هو الخالق لهذا الكون بما فيه، وجبريل عليه السلام ملَك وخلْق من خلْق الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر اختاره الله جل شأنه واصطفاه ليكون للناس بشيراً ونذيراً. فأين العجب في كل هذا؟ وأين المحال؟ ولماذا يكابر الناس ويجحدون ويتبرمون؟
حقيقة الوحي كما هيأه الله عز وجل وأراده، تنقض المقولات العلمانية:
لقد فوجئ محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينيه – بعيني رأسه – وهو يقول له: إقرأ حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس، وداخل الذات، وضمَّه الملَك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، أي حتى ضاق به نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً في كل مرة: إقرأ، ليؤكد أن هذا الذي يراه ليس خيالاً أو شعوراً، وإنما هو حقيقة يُحس بها في ثنايا جسده، ويرى أثرها في أعضاء جسمه، ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى حتى أنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائداً إلى بيته يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن منتظراً رسالة أو متشوفاً أو متشوّقاً إليها، ولم تكن خاطرة له على بال، وإنما طرأت طروءاً مفاجئاً ومثيراً على حياته دون أي توقع، ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه بطريقة الكشف التدريجي المستمر عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.
¥