تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم إن شيئاً من حالات الإلهام أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية لا يستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون، كما أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق والأمانة إلى عكس ذلك تماماً.

ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في توهمه بان هذا الذي رآه ووعظه وكلمه في الغار قد يكون طائفاً من الجن إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر، " لقد خشيت على نفسي " ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة، وقد كان الله عز وجل قادراً على أن يربط على قلب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلمه ليس إلا جبريلاً عليه السلام، ملك من الملائكة جاء ليخبره الخبر بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية الباهرة اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستبطن شيئاً من الرغبات والآمال، ولم يكتنز صنوفاً من المشاعر أو الأحزان، ثم بدأ يعبر عنها بشكل مفاجئ الآن.

أما انقطاع الوحي بعد ذلك وتلبثه أشهراً أو أكثر على الخلاف المعروف فيه فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة إذ في ذلك أبلغ الرد على الذين يفسرون الوحي بأنه إشراق نفسي، أو استبطان داخلي انبعث من أعماق ذاته نتيجة طول التأمل والتفكير.

لقد شاء الله عز وجل أن يحجب عنه الملَك الذي رآه لأول مرة في غار حراء مدة طويلة وأن يستبد به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عز وجل قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها، إلى أن رأى الملَك جبريل عليه السلام مرة أخرى.

إن هذا الانتظار الحزين ثم ما تلاه من ابتهاج مفاجئ كانا في الواقع الظرفين النفسيين لتلك الحالة من الفيض العقلي لم تعد تخطر معه ظلال الريبة أو الشك. إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً أو شعوراً داخلياً ضرباً من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.

فلا يمكن للاختلاط أو الهلوسة أن تؤدي أصواتاً وأمراً: إقرأ، ثم ينتج عن ذلك قرآن مفهوم بكلام فصيح يُتلى على الناس فيبهر أسماعهم، وعقولهم، وممن؟ من أمي لم يتعلم القراءة والكتابة ولم يحاولهما وتتواتر الآيات: " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً " [المزمل: 5]. " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى .. " [النجم:1] لكي تفرض الحقيقة العلوية للوحي نفسها فرضاً على العقل الوضعي، فكل ما يراه وما يسمعه وما يشعر به وما يفهمه يتفق الآن مع حقيقة واضحة تماماً في ذهنه جلية في عينيه هي: الحقيقة القرآنية. وسيتابع الوحي نزوله بسور القرآن سورة سورة، فتتزاحم في وعيه الحقائق التاريخية والكونية والاجتماعية التي لم يسبق أن سُجِّلت في صفحة معارفه بل حتى في معارف عصره واهتمامه.

وكل ذلك يؤكد أن الوحي حقيقة خارجية منفصلة عن ذاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا خيار فيها، وإنما تفاجئه في أي وقت وبغير ميعاد، ويتفاعل معها جسمه وعقله وضميره ووجدانه ليؤدي الرسالة كما تصله، ويبلغها كما سمعها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير