إن الارتياح النفسي المتمثل في القبول بما هو سائد في المجتمع من أعراف وهو ما يسميه التناغم أو التلاؤم مع العصر لا يدل على الصدق إلا على المستوى النفسي السطحي من السلوك المباشر الخالي من امتحان الضمير الذي هو شرط كل التزام خلقي، فلا بد من التناسق العقلي بين المبادئ والالتزام والاستعمال العملي للعقل الذي يقتضي التحرر من الدوافع النفسية والاستناد إلى القواعد الشكلية في نقد العقل العملي كما أشار" كانط " والتي تشترط لقبول قواعد السلوك التحرر من الدوافع النفسية.
إن الضمير كما يتبادر معناه من استخدام الخطاب العلماني يجعل السلوك أمراً كيفياً ولا يبقى أي من الناس أمام مسؤولية خارج عن تصوراته الشخصية، المهم أن يكون مرتاح النفس لسلوكه وكم من المجرمين ليسوا مرتاحين فقط لارتكاب جرائمهم بل يشعرون بالنشوة والسعادة ويفلسفون تصرفاتهم ([207]).
ولو افترضنا أن طرح المؤلف لقضية الضمير مقبول فهل يمكن لصدق الأمس أن يطابقه صدق الغد إذا كانت علامة الصدق هي الراحة النفسية؟ وهل هناك تقلب يفوق هذا النوع من الضمير وهل يمكن بناء قواعد أخلاقية ثابتة أو التزام خلقي على ذلك؟ ثم إذا كان هذا هو المعيار فإن من يعيب عليهم تصورهم للدين وآلية أدائه هم الأكثر راحة للضمير بل لا يعيشون أي قلق اتجاه رفض الواقع لهم فلهم واقعهم الخاص يتناغمون معه إن الضمير الذي يعبر عنه المؤلف ضمير ساذج وهو في حقيقته قناع للهروب من التكاليف وتبعات الأحكام ([208]).
رابعا: المنهج: لقد عرضنا الرؤية الحاج حمدية للمنهج من واقع نصوصه وهي لا تحتاج إلى تعقيب في ضوء الهدف الذي يرمي إليه هذا البحث. ومثله المنهج العشماوي فكلاهما ينطوي في معنى المقاصد والمصالح وينسحب عليهما ما قلناه فيهما.
خامساً - أفعال سيدنا عمر:
لقد عرضت بإيجاز بعض كلمات العلمانيين فيما يخص اجتهادات الفاروق رضي الله عنه لأن هناك دراسات كثيرة تعالج هذا الموضوع نكتفي بالإحالة إليها ([209]). كما أن مناقشتها تنطوي في كثير من صورها تحت معنى المقاصد، وتحقيق المناط.
الخاتمة:
لقد رأينا كيف أن الكلمات التمجيدية التي تُقال في حق القرآن الكريم من قبل أقطاب الخطاب العلماني لا تعدو كونها رشوة للضمير الإسلامي لكي يستعد لتقبل الحد من دائرة الحاكمية القرآنية للنشاط الإنساني والحياة الإنسانية، والسبيل الذي سلكه إلى هذه الغاية هو إبراز المفهوم الشائع في ترثنا الأصولي وهو المقاصد أو المصالح أو بعض المرادفات الأخرى والتشبث به كنظام منهجي للتفكير والاستنباط بدلاً من نظام اللغة المحنط حسبما يرى هذا الخطاب.
ولكن المشكل أن الخطاب العلماني يتجاهل أن قضية المقاصد قضية جوهرية في الفكر الأصولي منذ لحظاته الأولى، وأن الاتفاق قائم بين الخطابين الأصولي قديماً وحديثاً من جهة، والعلماني من جهة ثانية حول مركزية المقاصد وأهميتها، ولكن هذا الاتفاق حول هذه النقطة بالذات لم يثمر على الصعيد الفكري والعملي، لأن الإجابة على الأسئلة المهمة في هذه القضية محور خلاف شديد بين الخطابين الإسلامي والعلماني، لأن كل خطاب تنبع إجاباته من همومه وإشكالياته.
- فما هي المقاصد؟
- ومقاصد من؟
- وكيف يتم الوصول إليها؟
ثلاثة أسئلة جوهرية والإجابة عنها لا يمكن أن تنفصم عن القضايا الكبرى التي تؤرق الإنسان منذ أن وجد على ظهر هذه الأرض. فالخطاب الإسلامي لا يبت في هذه الأسئلة إلا من خلال الأبعاد الغيبية " الميتافيزيقية " المقترنة في الوقت ذاته بالبعد الحياتي المعرفي والعملي المنظور، ولا يمكن للخطاب الإسلامي وهو يجيب عن الأسئلة السابقة أن يحيد إيمانه بما وراء المادة، أو أن يكف عن تطلعه إلى المستقبل الآخر بعد هذه الحياة.
ولذلك فالمقاصد بنظره هي تلك التي تحقق له التوازن بين آفاقه الحياتية القريبة المعاشة وآماله أو رجاءاته الغائبة، بين عالمه المنظور الذي يعيشه ويمارسه؟، وبين العالم الآخر الذي ينتظره وسيعيشه.
ومن هنا يبحث الخطاب الإسلامي في الوحي عن مرادات الخالق عز وجل ومقاصده لأنه هو [الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى] وهو الذي خلق الإنسان ويعلم [ما توسوس به نفسه] ولذلك فهو أدرى بما يصلحه وينفعه في عاجله وآجله.
¥