تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكي يصل الإنسان إلى مقاصد الخالق عز وجل لا بد أن يفهم خطابه، ولكي يفهم خطابه لا بد أن يكون ضليعاً في لغة هذا الخطاب، ومن هنا جاءت الإشارة مراراً في القرآن الكريم للتأكيد على هذه اللغة والتمنن بها على أهلها، وحين انطلق الأصوليون من قوانين اللغة ونظامها البياني لم يكن ذلك إلا ترسماً للهدي القرآني، وتمثلاً لتوجيهاته، ولم يكن ذلك بنزعة عنصرية أو شعوبية كما يحلو للبعض أن يقول.

أما في الخطاب العلماني فإن المقاصد هي تلك التي تحقق للإنسان التواءم مع واقعه الذي يعيشه أياً كان هذا الواقع، ولعلها تلك التي تستجيب للمعقوليات والضمائر الحديثة، وتُصالح الإنسان مع المجتمع الذي يعيش فيه أياً كان هذا المجتمع، وبذلك يخرج الإنسان من دائرة الغربة إلى فضاء الانسجام، ويتخلى عن استراتيجية الرفض والممنوع، والحلال والحرام [ذهنية التحريم] ([210]) لينخرط في دوامة الحياة كما هي بدون تشنج أو تردد، وينفرط نظام خصوصيته، وقوام شخصيته في عولمتها الصاخبة الجارفة.

ومن هنا فإن الحديث عن مقاصد الله عز وجل في النص أمر بعيد المنال، وخارج حدود الوسع البشري، ولذلك يجب التوجه للبحث في النص عن مقاصد القارئ أو المتلقي، أو بعبارة أخرى عن تبرير لمقاصده. إن القرآن الكريم يقول كل شيءٍ ولا يقول شيئاً بنظر الخطاب العلماني، أي لا يقول شيئاً يحد من إرادة الإنسان، ويقول كل شيءٍ يبرر أهواءه ورغباته وقناعاته. ولكي يُقوّل القرآن ذلك يتم حشد كل الوسائل الممكنة من فلسفات، ومناهج لسانية، وبنيوية، وتفكيكية دون اعتبارٍ لقائل النص أو لغته أو حضارته أو مقاصده.

وفي هذه الحالة لم تعد هناك حاجة للنص أصلاً إلا حين يستدعى ليكون غطاءً للتبرير، ورداءً للمشروعية، لقد تحول النص كما أراد الخطاب العلماني فعلاً إلى أيديولوجية تسويغية أو تسويقية وظيفتها تكريس حاكمية الإنسان في هذا الكون.

وبذلك يبدو لنا أن المفاهيم الأصولية المعلنة كالمقاصد والمصالح والمغزى ليست إلا شعارات مُفرَغة من مضامينها يراد لها أن تحقق غايات فكرانية ([211]) مسبقة تم الاتفاق عليها في الخطاب العلماني، ويُتوَسَّل في تمريرها إلى العقل الإسلامي بأن تُقنع بأردية إسلامية. في حين أن المقاصد في ميزان الإسلام تابعة للنص وخاضعة له ولكل توابعه كالسنة والإجماع والقياس والاستحسان وغير ذلك، بالإضافة إلى كونها محكومة برؤية أخروية غيبية، أما في الخطاب العلماني فإن المقاصد عبارة عن الأهواء والأغراض والشهوات وكل ما يحقق للإنسان دنيويته المحضة.

الهوامش:

([1]) الهرمينوطيقا مصطلح يراد به التأويل أو فن قراءة النصوص والفنون ولكنه أصبح يُعنى بالبراعة الاستدعائية أو الاستيحائية من خلال التأمل في النصوص أو الأعمال الفنية المختلفة وأصبح القارئ يبتعد جداً عن النص الأصلي معتمداً على ما يسميه امبرتو إيكو " التوالد الإيحائي " أو " التناظر والانتقال المزيف ". ومن هنا أردت أن ألفت نظر القارئ إلى الصلة بين الهرطقة والهرمينوطيقا بجامع القراءة المزيفة للنصوص في كليهما. كتبت في ذلك مبحثاً في أطروحتي للدكتوراة بعنوان " العلاقة بين العلمانية والغنوصية ".

([2]) انظر: محمد عابد الجابري في مواطن كثيرة من كتابه " بنية العقل العربي " على سبيل المثال ص 61 - 64، 550، 551، 564، 543 ومحمد الطالبي " أمة الوسط " ص 137، 126 وله أيضاً " عيال الله " ص 143، 144 ومحمد جمال باروت " الاجتهاد: النص لواقع المصلحة " ص 96/ 97 وعبد المجيد الشرفي " الإسلام بين الرسالة والتاريخ " ص 80، 66 محمد أركون " تاريخية الفكر " ص 170 وحسن حنفي " حوار المشرق والمغرب " ص 36. والمراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها. انظر: د. أحمد الريسوني " نظرية المقاصد عند الشاطبي " ص 6.

([3]) انظر: حسن حنفي " حوار المشرق والمغرب " ص 195 وانظر: الصادق بلعيد " القرآن والتشريع " ص 309، 310 ومحمد جمال باروت " الاجتهاد: النص الواقع المصلحة " ص 161، 162، 138، 105، 133 ونوال السعداوي " المرأة والدين والأخلاق " ص 52 وانظر: نصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 207.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير