فالكلمتان (قرءناً عربيّاً) تعنيان بإطارهما العام، قرآناً كاملاً شاملاً تامّاً مفصّلاً لا عوج فيه وخالياً من أيِّ عيب أو نقص، ومعناهما ليس محصوراً بإطار التفسير المعروف - تقليديّاً - بأنّه قرآن بلغة قوم العرب ... هو قرآنٌ بلغة قوم العرب، ولكنّ هذا المعنى يأتي من جملة المعاني المُرادة، لأنّ لغة قوم العرب تحمل المفردات القرآنيّة الفطريّة الموحاة من الله تعالى كما رأينا .. و الدليل في هذا المذهب من التفسير هو الآتي:
1 - قوله تعالى (لعلّكم تعقلون) في نهاية الآية الكريمة، هو خطاب للبشريّة جمعاء، وليس خطاباً خاصّاً بالعرب دون غيرهم، لأنَّ القرآن الكريم أنزله الله تعالى لجميع البشر وليس للعرب وحدهم ..
(يأيّها الناس قد جاءكم برهن من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مُبيناً (174) فأمّا الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه وفضل ويهديهم إليه صرطاً مستقيماً) [النساء: 4/ 174 - 175]
(وما أرسلنك إلاّ كافَّة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سبأ: 34/ 28]) ..
وإنَّ الجزم بإنّ الكلمتين (قرءناً عربيّاً) لا تعنيان إلاّ قرآناً بلغة قوم العرب، يقتضي أنّ نهاية الآية الكريمة (لعلّكم تعقلون) خطابٌ موجّهٌ حصراً للعرب .. وهذا يتعارض مع حقيقة القرآن الكريم ككتاب للبشريّة جمعاء ..
2 - ودليلٌ آخر على أنّ كلمة (عرب) تعني التمام والكمال والخلو من العيب والنقص، هو قول الله تعالى: (إنّا أنشأنهنَّ إنشاءً (35) فجعلنهنَّ أبكاراً (36) عُرُباً أتراباً) [الواقعة: 56/ 35 - 37]
فكلمة (عُرُباً) مشتقّة من الجذر (ع ر ب)، ولا تخرج في معناها عن إطار المعنى الذي يحمله هذا الجذر، ونرى أنّها لا يمكن أن تعني أنَّ أُولئك اللاتي سينشأهنّ الله تعالى في الآخرة لأصحاب اليمين ينتمين لقوميّة مُحدّدة .. فالأولى بمعيار القرآن الكريم عقلاً ومنطقاً أن يكون معنى كلمة (عُرُباً) هو أنّ اللاتي سينشأهنّ الله تعالى في الآخرة، كاملات تامّات خاليات من أيِّ عيب أو نقص ..
3 - ومن متعلّقات القرآن الكريم كونه عربيّاً أنّه غير ذي عوج ..
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كلِّ مثلٍ لعلّهم يتذكرون (27) قرءاناً عربيّاً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلّهم يتَّقون) [الزمر: 39/ 27 - 28]
4 - والقرآن الكريم عربي لأنّه فُصّلت آياته تفصيلاً كاملاً لكلِّ عالمٍ ومتعلّمٍ يريد أن ينهل من علومه ..
(كتب فُصِّلت ءايته قُرءاناً عربيّاً لقوم يعلمون) [فصّلت: 41/ 3]
5 - والله تعالى أنزل القرآن الكريم حال كونه حُكماً تامّاً كاملاً لا عيب فيه ولا نقص ..
(وكذلك أنزلنه حُكماً عربيّاً) [الرعد: 13/ 37]
فالحكم مسألة مُجرّدة تماماً عن اللغة من حيث خصوصيّتها القوميّة، وبالتالي نرى أنَّ كلمة (عربيّاً) تُبيّن لنا وجه الكمال والتمام والخلو من أيِّ عيب أو نقص في الحكم الذي أنزله الله تعالى ..
6 - ومن خصائص إنزال القرآن الكريم أنّه أُنزل بلغة و أسلوب وتبيان (لسان)، بحيث يتّصف بالكمال والتمام والخلو من أيّ عيب أو نقص .. وليس بلغة وأسلوب وتبيان كتبيان البشر الذي لا بُدّ وأن يحمل العيب والنقص، لأنّ علم البشر - مقارنة مع علم الله تعالى - علمٌ ناقصٌ ..
(ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يُعلِّمه بشرٌ لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربيٌّ مبين) [النحل: 16/ 103]
(نزلَ به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المُنذِرين (194) بلسان عربيٍّ مُبين) [الشعراء: 26/ 193 - 195]
(وهذا كتب مصدِّقٌ لساناً عربيّاً ليُنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) [الأحقاف: 46/ 12] ..
ففي الآية الأخيرة نرى أنّ الذين يُنذرهم القرآن الكريم (الذين ظلموا)، والذين يُبشّرهم القرآن الكريم (المحسنين)، موجودون في كلِّ الأمم، وليسوا حصراً على قومٍ مُحدّدين (قوم العرب) .. ولذلك فالكلمتان (لساناً عربيّاً) تعنيان لغةً وأسلوباً وتبياتاً كاملاّ تامّاً خالياً من أيِّ عيب أو نقص ..
وحكمة الله تعالى تقتضي أن يُرسل كلّ ُرسولٍ بلغة قومه وبأسلوبهم وبطريقة تبيانهم، حتى يُبيّن لهم المنهج الذي يحمله ..
(وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليُبيِّن لهم) [إبراهيم: 14/ 4]
¥