ولذلك فجميع الرسالات السابقة نزلت (صياغة) بلغات البشر الوضعيّة، لأنها تحمل مناهج لأقوامٍ مُحدّدين في أزمنة مُحدّدة، وبالتالي لم تكن قولَ الله تعالى، إنّما كانت فقط كلامَ الله تعالى .. بينما نرى أنَّ منهج البشريّة جمعاء (القرآن الكريم) نزل قولاً لله تعالى، بلغةٍ فطريّة نطق بها أبو البشريّة جمعاء (آدم عليه السلام)، في العالمين (عالم الأمر وعالم الخلق) ..
فمنهج البشريّة جمعاء لا بُدّ أن يكون بلسانٍ فطريٍّ يجمع البشريّة جمعاء، وبلغة فطريّة هي اللغة الأولى التي عرفتها البشريّة .. وهذا لم يتوفّر إلاّ باللغة الفطريّة التي حافظ عليها الأميّون (لغة) منذ آدم عليه السلام إلى مبعث مُحمّد صلى الله عليه وسلم ..
ومن مشتقّات الجذر (ع ر ب) كلمة الأعراب والتي تصوِّر لنا البشر الذين يتظاهرون بالكمال والتمام ولا يعترفون بعيوبهم، فهمزة التعدّي تُبيّن لنا - إضافة لما يبيّنه لنا القرآن الكريم من صفات الأعراب - أنّهم يتعدّون على صفة الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص، هذه الصفة التي لا يتّصفون بها ..
والجزم بتفسير كلمة الأعراب في جميع كُتب التفسير، بأنّها لا تعني إلاّ البدو (سكان البادية)، يتعارض تماماً مع روح القرآن الكريم، الذي يصف البشر ويُقيّمهم حسب انتماءاتهم العقيديّة، لا حسب انتماءاتهم الجغرافيّة والإقليميّة ..
ولو كانت كلمة الأعراب لا تعني إلاّ البدو (سكان البادية)، لاستُبدلت - في كتاب الله تعالى - بكلمة البدو، فكلمة البدو كلمة قرآنيّة، وفي القرآن الكريم لا تُوجَد كلمة مُرادفة لكلمة أُخرى بالمعنى الذي يتصوّره بعض البشر ..
(وقد أحسن بي ربّي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البَدوِ) [يوسف: 12/ 100]
ومما يُقابل كلمة عربي التي تعني - كما رأينا - الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص، هو كلمة (أعجمي)، التي تعني عدم الكمال وعدم التمام، وتعني وجود العيب والنقص .. يقول الله تعالى ..
(ولو نزَّلنه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكنه في قلوب المجرمين (200) لا يُؤ منون به حتى يَروا العذاب الأليم) [الشعراء: 26/ 198 - 201]
من الواضح في هذه الصورة القرآنيّة أنَّ كلمة (الأعجمين) لا تعني أبعاداً قوميّة، ولا تعني غيرَ البشر، إنَّما تعني صفاتٍ سلبيّةً في نفوس بعض الأعجمين، تحمل من العيب والنقص والابتعاد عن الحق ما يجعلهم لا يُؤمنون بالقرآن الكريم، ولا يرون فيه الحقَّ ودلائل الإعجاز التي تُبيّن كماله وتمامه وخلوّه من أيِّ عيب أو نقص ..
ولو أخذنا هذه الكلمة (الأعجمين) حسب المعنى الذي ذهبت إليه التفاسير، لتناقض ذلك مع ما يحمله القرآن الكريم من أدلّة، ومع الواقع الذي نراه بأمِّ أعيننا ..
- يتناقض هذا المذهب من التفسير مع كون القرآن الكريم أُنزل للبشريّة جمعاء، وليس لقوم العرب وحدهم .. فبعض الأعجمين (إن كانت كلمة الأعجمين تحمل معنىً قوميّاً كما تذهب التفاسير) أُنزِل عليهم القرآن الكريم، لأنّهم من جملة الناس الذين أُنزل إليهم القرآن الكريم .. وبالتالي فالآية الكريمة (ولو نزَّلنه على بعض الأعجمين) لا يُمكن أن تعني بعض ما هو ليس من قوم العرب، لأنّ المجرمين الذين تصفهم الآيات الكريمة التالية لهذه الآية، والذين لا يُؤمنون بالقرآن الكريم حتى يروا العذاب الأليم، موجودون في قوم العرب وفي كلِّ الأقوام ..
- ويتناقض هذا المذهب من التفسير مع الواقع، فغير العرب الكثير منهم آمن بالقرآن الكريم، والله تعالى يقول عن بعض الأعجمين (ما كانوا به مؤمنين) .. فلا تُوجد أُمّة إلاّ وفيها من آمن بالقرآن الكريم .. ولذلك فإنَّ الجزم بأنَّ العبارة القرآنيّة (بعض الأعجمين) تعني بعض القوميّات الأخرى، يتناقض مع وجود المؤمنين بالقرآن الكريم في كلِّ القوميّات، ومع كون القرأن الكريم منهجاً لكلِّ القوميّات دون استثناء ..
والآية الكريمة التالية، بتفسيرها المنسجم مع روح القرآن الكريم ككتاب مُنزل للبشريّة جمعاء، ومع ساحة رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والتي هي للبشريّة جمعاء، تُؤكّد صحّة التفسير لكلمة أعجمي ..
¥