تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالرواية الإسلامية المعتمدة أنّ جمع القرآن تراوح بين عهدي أبي بكرٍ وعثمان: في عهد أبي بكرٍ جمُعت العُسُب واللخافُ والأكتافُ والرقوق في بيت حفصة بنت عمر زوج النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي عهد عثمان أُخذت تلك (المجموعة)، وقورنت بما عند المسلمين حفظاً وكتابة، ودُوّنت في (المصحف)، الذي كُتبت منه عدةُ نُسَخٍ أُرسلتْ للأمصار. وما كان للأُمويين دَخْلٌ في ذلك. وقد اتُّهم الأُمويون بشتى التُهَم الصحيحة والمخطئة، وما كان من بينها إخفاءُ شيء من القرآن، وكيف يكونُ لهم ذلك، وقد جُمع القرآن وجرى تداوُلُهُ كاملاً ومكتوباً قبل عهدهم وسلطتهم بزمنٍ طويل. ثم إنهم عندما وصلوا للسلطة قادوا حملةً ضدَّ الذين اتهموهم بالاحتفاظ بنُسَخِهِمْ الخاصّة من القرآن، من تلامذة عبد الله بن مسعود؛ إذ كانوا يعتبرون عثمان شيخهم ومرجعهم الأول وأصل شرعيتهم. وإذا جاز لمستشرقٍ أن يقول إنّ أبا بكرٍ أو عثمان أخفى شيئاً من القرآن، لأنّ فيه ذكراً لفضائل علي وأهل البيت مثلاً، فكيف يوافقُ عليٌّ على ذلك، وقد شهد جمع عثمان، كما حكم بعد عثمان، واتخذ من مصحف عثمان مصحفاً له، وما نزالُ نعرفُ من كتب علوم القرآن أن مصحف عليٍ كان يختلف في ترتيب بعض سُوَر القرآن الوسطى والقصيرة؛ لكنّ علياً رأى أن ترتيب المصحف العثماني أصحُّ من ترتيبه، وهو الموروثُ بإجماع الصحابة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

أما الأسطورةُ الأُخرى عن مكتبة الفاتيكان السرية، فلا أساسَ لها أيضاً. فالمخطوطات العربية والقرآنية بالفاتيكان صدرت لها فهارسُ علميةُ تضمنتها كلها منذ قرنٍ ونيف، وقد كانت هناك مئاتٌ من الردود المتبادلة والجدالات الفظيعة بين المسلمين والمسيحيين في العصور الوسطى والحديثة، فلو كانت هناك- جدلاً– ورقاتٌ سرية تتضمن آياتٍ ليست في المصحف العثماني لسارع المجادلون المسيحيون إلى استعمالها ضد القرآن والمسلمين؛ وبخاصةٍ أنّ القرآن ثم كتب الردود الإسلامية (المسمَّاة: الردّ على النصارى) تتهم هؤلاء منذ القرن الثالث الهجري بتحريف الإنجيل، وبالتزيُّد فيه، أو الإنقاص منه!

وما نجا القرآنُ من الاستشراقين القديم والجديد. في الاستشراق القديم بحث المعنيون بالدراسات القرآنية في الأصول اليهودية والمسيحية للقرآن. ووصل الأمر ببعضهم لتتبُّع القرآن أيةً أيةً، وتحديد النص أو القصة أو الحكم الذي أَخَذَ منه النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الأمر أو ذاك. حتى إذا لم يجدوا موطناً في النصوص المسيحية واليهودية الرسمية يمكن الإرجاع إليه، قالوا إنّ ما في القرآن مأخوذٌ عن التراث الشعبي اليهودي أو المسيحي. وإذا وجدوا أنّ هذه القصة أو تلك في القرآن تخالفُ ما في نصوصهم القانونية قالوا إنّ محمداً أخطأ في فهم النصّ الذي نقل عنه ربما لاعتماده على روايةٍ شفويةٍ أو لأن الذين أخبروه أو ترجموا له خدعوه! أمّا الاستشراق المعاصر فقد بذل جَهداً كبيراً في العقود الثلاثة الماضية في تدمير تاريخية القرآن. البعض قال إنّ النبيَّ وأصحابه تركوا قِطَعاً من القرآن، عانى العباسيون لجمعها بعد مائةٍ وخمسين عاماً على وفاة النبي. والبعض الآخر عاد لإرجاع القرآن كلِّه إلى أُصولٍ سريانيةٍ وآرامية جُمعت ونُظّمت وحُذف منها وأُضيف إليها عبر القرنين الأولين للإسلام!

ولستُ أقصِدُ من وراء التطرق للاستشراق اتهام الشيخ اليماني بأنه متأثرٌ به، أو أنّ المستشرقين هؤلاء سيتخذون كلامه حجةً لتصعيد الحملة على القرآن- فاليماني لا يصلح حجةً في هذا المجال معنا أو علينا. بل ذكرتُ أقوالَ وآراء ضِعاف الدارسين هؤلاء لأُذكّرهُ بأن مباحث القِدَم والأصالة والاكتمال ظلت الشغل الشاغلَ للدراسات (العلمية والنقدية!) طوال قرنٍ ونصف، ما خطر ببال أحدٍ من هؤلاء ما خَطَر لليماني؛ إذ لو كان أقلّ ذلك صحيحاً أو معقولاً أو تاريخياً، لانتهى القرآن منذ زمنٍ طويلٍ، تحت وطأة الإضافات والمحذوفات؛ وبخاصةٍ أنّ المسلمين أنقسموا بسبب الصراع السياسي منذ الصدر الأول، ولو لم يكن الإجماعُ على القرآن سابقاً على الانقسام، لما أمكن الاتفاقُ على (قانونيته) لا أيام بني أمية، ولا أيام بني العباس!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير