بل ردود المسلمين، على الملل الأخرى، نابعة من نظرية المعرفة، ولهذا تجدهم يردون على كل من شوه المعرفة كالمذهب الشكي السفسطائي الذي كان يعد «الأشياء جميعا غير قابلة للمعرفة اليقينية» ‹9 ›.
وهذا هو السر أيضا في عدم الاتفاق بين علماء المسلمين على إيجاد تعريف دقيق للعلم، فكل واحد منهم يحاول جاهدا إيجاد تعريف لا خلل فيه، ولقد أفاض الآمدي في ذكر هذه التعاريف وقام بنقدها، ليصل إلى هذا التعريف " العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف تمييز حقيقة ما، غير محسوسة في النفس، حصل عليها حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل عليه " ‹10 ›
والناظر في تعريف العلم عند علماء المسلم يجد أنه ما ذكر تعريف إلا ويمكن الاعتراض عليه، ومن أكثر الذين اهتموا بنظرية المعرفة القاضي عبد الجبار المعتزلي، وقد عرف العلم بقوله هو «المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم، إلى ما تناوله» ‹ 11›،ويقول في موطن آخر» إن المعرفة والدراية والعلم نظائر، ومعناها ما يقتضي سكون النفس، وثلج الصدر، وطمأنينة القلب «‹12›
يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات على تعريف القاضي للعلم.
الأولى: نجد في تعريف القاضي عدم التفرقة بين العلم والمعرفة، وهذا التعريف منه متأثر بالمعنى اللغوي لكل من العلم والمعرفة، إذ لا فرق بينهما من الناحية اللغوية‹ 13›.
الثانية: لابد من البيان أن القرآن الكريم من حيث الاستخدام فرَّق بين العلم والمعرفة، حيث نجد أن الله أضاف العلم لنفسه، وأضافه للإنسان كما سبق، وأضاف المعرفة إلى الإنسان،ولكنه لم يضف المعرفة بجميع صيغها إلى نفسه. من ذلك قوله تعالى" الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم " [20 من سورة الأنعام]
وهذا الاختيار من الله ليس أمرا عشوائيا، فلا بد أن يكون هناك ملحظ لعدم إسناد المعرفة إلى نفسه، مما يعني أن عدم الإسناد دليل على التفرقة بينهما.
ومن خلال البحث في مظان نظرية المعرفة نجد من فرق بينهما في أمرين:
الأول: أن المعرفة «إدراك الشيء بتفكر وتدبر» ‹ 14› ولا شك أن هذا المعنى لا يطلق على الله تعالى.
الثاني: المعرفة «مسبوقة بجهل، بخلاف العلم، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم، دون العارف «‹ 15›.
والذي أراه أن الفرق بين العلم والمعرفة من خلال هذين الوجهين، جاء انطلاقا من خلال القرآن الكريم، وهذا ما يفسر قصر إسناد المعرفة ومشتقاتها على الإنسان دون الله.
كما أنا نلاحظ أن القاضي يسوي بين معنى العلم ومعنى الدراية، وللإشارة فإن الله أسند الدراية في القرآن الكريم إلى الإنسان، ولم يسندها إلى نفسه‹16 ›، ولعل السر في ذلك أن الدراية هي «المعرفة المدركة بضرب من الحيل» ‹ 17›،وهذا المعنى يتنزه الله عنه، كما أن الإشكال في أصل الدراية، فأصلها مأخوذ من «المخاتلة من دريْت الصيد، وأدريته ختلته» ‹18 ›.
الثالث: مما يؤخذ على تعريف القاضي أنه جعل سكون النفس وطمأنينتها،أمر جوهريا في التعريف، و ذلك أن الإنسان في نظر القاضي لا يجد» اضطراب النفس وانزعاجها، في هذا الأمر الذي اعتقدَه» ‹ 19›.
أي أن القاضي يريد من وراء ذلك أن يصل العالِمَ بالشيء الذي يريد معرفته إلى أعلى درجات اليقين، بحيث لا يبقى أي اضطراب في النفس اتجاه الشيء المعلوم.
ولكن السؤال الذي يطرح على القاضي عبد الجبار، هل التركيز على طمأنينة النفس تجعل من ذلك معيارا للوصول إلى الحقيقة؟
الذي أراه أن تعريف العلم عند القاضي عبد الجبار على النحو الذي عرفه به، يجعل العلم أمرا ذاتيا، وليس معياريا، وتزداد هذه الذاتية أكثر بجعله «سكون النفس راجعا إلى العالم، لا إلى العلم» ‹20 ›، أي أن المعيار في ذلك هو الذات العالمة لا الموضوع الذي يراد معرفته، ومؤدى هذا اختلاف المعايير في ضبط الموضوع، ذلك لأن سكون النفس وطمأنينتها أمر راجع إلى الوجدان/الذات لا إلى الموضوع‹ 21›.
¥