بالنسبة لحديث ابن لهيعة فإن الأوصاف التي قيلت فيه أؤكد الكلام السابق فيها أنها نسبية، ومجرد استدلال البخاري ومسلم والنسائي بحديثه مقروناً مع غيره يؤكد ذلك، وفيما ذكرته من الكلام حول ابن لهيعة يوضح ذلك، إذن فالنظر لبعض الأقوال في جرح ابن لهيعة ميل لحكم دون آخر.
بالنسبة للحديث الضعيف فإن كلامكم حفظكم الله لا خلاف فيه ولكن تعلمون أن أول شرط للعمل بالضعيف هو أن لا يكون شديد الضعف، وهو ما جرى عليه عمل العلماء في أحاديث الأحكام، وليس الأمر مطروحاً في هذه الجزئية والكلام في الحديث الضعيف يطول.
ثم إني وجدت كلاماً لابن كثير يؤيد ما ذهبت إليه من تقوية أحاديث الصراط ببعضها وعدم الحكم عليها بالاضطراب، وهو في كتاب أهوال يوم القيامة بتحقيق يوسف علي بديوي وهو في الأصل مأخوذ من البداية والنهاية لابن كثير وطبعه يوسف بديوي مفرداً فيه أهوال يوم القيامة دون أن يشير إلى أنه مأخوذ من البداية والنهاية (ط دار اليمامة دمشق الثانية 1422 ـ 2002) وسأورد من الكتاب ما يبين هذا:
حديث ابن مسعود موقوفاً بلفظ: فيمرون على الصراط كحد السيف دحض مزلة ... (أهوال يوم القيامة صـ208) أخرجه البيهقي من طريق المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن مسروق عن ابن مسعود.
قال ابن كثير: (وقد أورده البيهقي بعد هذا من حديث حماد بن سلمة عن أبي عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود فذكره موقوفاً) أهوال القيامة صـ 209.
ومعنى دحض مزلة أي مزلقة لا يمكن الثبات عليها (انظر مجمع بحار الأنوار في غريب التنزيل ولطائف الأخبار 2/ 153)
ثم ذكر ابن كثير أن البيهقي أخرج أيضاً من حديث أنس بن مالك مرفوعاً: (الصراط كحد الشعرة، أو كحد السيف .. الحديث) ثم قال ابن كثير: (ثم روى البيهقي من حديث سعيد بن زربي عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعاً نحو ما تقدم بأبسط منه وإسناد ضعيف ولكن يقوَّى بما قبله والله أعلم) أهوال يوم القيامة صـ 209. لم يحكم عليه بالاضطراب ولكن قواه بتعدد طرقه
وذكر ابن كثير في موضع آخر حديث ابن مسعود عند الإمام أحمد (1/ 435) موقوفاً وفيه: (والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك السعدان حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس .. ) قال ابن كثير: (وله شواهد فيما مضى وما سيأتي إن شاء الله) أهوال يوم القيامة صـ 217.
وفي موضع آخر ذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي الدنيا من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: يوضع الصراط يوم القيامةوله حد كحد الموسى، فتقول الملائكة: ربنا ومن يجيزنا على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: ربنا ما عبدناك حق عبادتك. أهوال يوم القيامة صـ 230.
نلاحظ أن ابن كثير وهو محدث ومفسر وفقيه لم يحكم على الحديث بالاضطراب،مع ظهور اختلاف الروايات بلفظ كحد السيف أو كحد الموسى، أو مثل السيف ... بل إنه قوى الأحاديث ببعضها في رواية ابن مسعود، ورواية أنس بن مالك.
وأما تعريف المضطرب فيقول السيوطي في تدريب الراوي صـ 133 مدرجاً كلامه مع كلام النووي في التقريب: (المضطرب "هو الذي يروى على أوجه مختلفة" من راو واحد مرتين أو أكثر أو من راويين أو رواة "متقاربة"، وعبارة ابن الصلاح "متساوية" وعبارة ابن جماعة "متقاومة" .. أي ولا مرجح .. ) إذن في الاضطراب اختلاف في الرواية أو المتن اختلافاً حقيقياً يوجب رد الحديثين المضطربين لعدم الترجيح لأحدهما، وعبارة ابن جماعة "متقاومة" تنبئ عن تجاذب الترجيح للتساوي بين الروايات في السند أو المتن، ولا يضيرنا أن لا يوجد مثال للمضطرب أو أن تكون الأمثلة على المضطربة نادرة فهذا ليس بدليل على قبول الاضطراب في كل حديثين اختلفا اختلافاً ظاهراً، فكم من مثال ذكره العلماء عن المضطرب ثم نقد وتدريب الراوي ذكر أمثلة على المضطرب ذكرها المحدثون ثم نقدها ونقل كلام شيخه ابن حجر في نقدها.
ثم إني أرى فضيلتكم تقولون في كل مسألة إن فيها نظراً ولكنكم لا توضحون وجهة نظركم وانتقادكم ورأيكم فيها وما هو الراجح برأيكم.