تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما في المجال العقائدي فقد كان الشيعة أول من تهرمس في الإسلام، ولم تسلم الجهمية هي الأخرى من هذا التلوث وكذا الصوفية، ثم جاء بعد ذلك دور التيارات الباطنية ممثلة في إخوان الصفا وفلسفة ابن سينا، التي تزعمت التيارات الباطنية الإشراقية، ثم غدت بعد ذلك طابعاً عاماً لكثير من التيارات المنحرفة التي كان مدار التفكير فيها والمنهج المفضل للوصول إلى المعرفة قائماً على أساس الكشف والعرفان والإشراق الذوقي الباطني، وبخلاف كثير من الباحثين يرى المؤلف أن هذا الاتجاه لم يكن رد فعل ضد تشدد الفقهاء، ولا ضد جفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا، لقد ظهر هذا النظام قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء، ونظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل، لقد كان هذا التيار نتيجة لمحاولة عناصر معادية للفكر الإسلامي وللدولة الإسلامية قادته عناصر من الزنادقة وأتباع الديانات الوثنية؛ من أجل تقويض البناء الفكري والسياسي للدولة الإسلامية.

هذا عن البيان والعرفان ... أما عن البرهان فيذكر المؤلف تبعاً لما يراه المستشرق كارل بروكلمان أن المأمون (198 - 218 هـ) إنما أمر بترجمة الفلسفة اليونانية لمواجهة العرفان المانوي الغنوصي الذي اعتمده الشيعة والزنادقة لمواجهة الدولة الإسلامية، لقد كان الكندي (185 - 252 هـ) هو أول فيلسوف عربي حيث أكد على أن المعرفة إنما تكون حسية أو عقلية أو إلهية أداتها الرسل المبلغة عن الله، وهو بذلك يرفض العرفان الشيعي الصوفي، ثم جاء بعده الفارابي (260 - 339 هـ) الذي حاول «الجمع بين الحكيمين»، أرسطو وأفلاطون محاولا «التوفيق» بين تيارت الفلسفة اليونانية المختلفة، متوصلاً بذلك إلى أن العرفان إنما هو ثمرة للبرهان.

لقد بقيت مدرسة بغداد كما يرى المؤلف من المأمون وحتى الخليفة القادر (381 - 22 هـ) مركزاً علمياً مخلصاً لاستراتيجية المأمون الثقافية القائمة على الارتكاز على أرسطو، ومنطقه وعلومه في الحرب ضد الإسماعيلية العرفانية الهرمسية، ثم تسلم بعد ذلك ابن رشد الراية عنهم، وهو المفكر الذي احتفظ بصورة فلسفة أرسطو نقية كما جاءت عنه، رافضاً إضافات الفارابي وابن سينا إلى هذه الفلسفة. هكذا تشكلت الدوائر الثلاث البيانية والعرفانية والبرهانية في الفكر الإسلامي، لكنها لم تدم مستقلة بعضها عن بعض طوال الوقت، لقد حصل تدريجيا تداخل بين هذه التيارات ... فلقد حاول ابن سينا تأسيس «العرفان» على «البرهان»، وذلك بالبحث في الفلسفة عن أسانيد للرؤية الهرمسية للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله. كما حاول الغزالي تأسيس «البيان» على «العرفان»، وذلك بالتشكيك في كل قيمة للمعرفة الحسية والتجريبية والعقلية، متوصلاً بذلك إلى تفضيل طريقة «الكشف» والإلهام باعتبارها طريق اليقين الوحيد. بينما حاول ابن حزم تأسيس «البيان» على «البرهان» وذلك برفض قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتماد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض المتابعة في محاولته لتأسيس فقه المقاصد. أما ابن رشد، فقد سن محاولات الخلط بين هذه الحقول، ورأى أن الشريعة صنو الحكمة وأختها الرضيعة، وأن لا سبيل للبرهنة من أحدهما على الأخرى ... وهي نتيجة توصل إليها أبو سليمان المنطقي من قبل، لكن كان لابن رشد فضل بلورتها وتوضيحها.

المؤسف كما يرى الجابري أن محاولة ابن رشد جاءت متأخرة فلم تلق أُذناً صاغية ممن جاء بعده من المفكرين، بل كان النصر «للعقل المستقيل» في الحركة الصوفية والشيعية، كما كان النصر حليفاً لاختلاط الأنهر عند المتكلمين الذي ظهر بظهور الرازي حيث قام تلميذه (الإيجي) بعد ذلك بوضع الصورة النهائية لعلم الكلام في كتابه «المواقف» حيث يختلط فيه «البيان» بـ «البرهان» بـ «العرفان» وبذلك ظهرت أزمة الأسس في الفكر الإسلامي، وتشفي الحقيقة ثم ساد بعد ذلك الجمود والتقليد، وتحريم الاجتهاد والنظر العقلي.

... هذا عرض سريع لموضوع كتابي «بنية العقل العربي» و «تكوين العقل العربي» نأتي بعده إلى سؤال مهم:

تُرَى ما هي المدرسة التي يتبناها الجابري بين هذه المدارس المختلفة، والتي يبشر بها ويدعو إليها؟!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير