قراءة في فكر د/ محمد عابد الجابري
عبدالعزيز بن محمد الوهيبي
هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض .. عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته، ومفاهيمه، وتصوراته، ورُآه .. ؟! ثم لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رُؤى .. ) في الثقافة العربية (الإسلامية) خلال نهضتها في «القرون الوسطى» إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم، على غرار ما حدث في أوربا ابتداءً من القرن الخامس عشر (الميلادي).!
تلك هي الإشكالية التي شغلت ذهن المفكر المغربي د/ محمد عابد الجابري، ودفعته إلى إصدار دراساته المتنوعة حول كثير من قضايا الفكر الإسلامي التي منها: «نحن والتراث» صدر عام 1980م و «الخطاب العربي المعاصر» صدر عام 1982م و «نقد العقل العربي» الذي بدأ صدور أجزائه عام 1986م. ولعل أهم هذه الدراسات وأكثرها ثراءً، الدراسة الأخيرة التي جاءت في ثلاثة أجزاء، كان الأول منها عن «تكوين العقل العربي» والجزء الثاني عن «بنية العقل العربي» والجزء الثالث عن «العقل السياسي».
والجزء الأول والثاني، أكثر أهمية في نظري من الجزء الثالث الذي درس نشأة الدولة في الإسلام، وتطورها ... وحاول المؤلف فيه إبراز ما أسماه المحددات التي بقيت تحكم هذه الدولة في مختلف مراحل مسيرتها الطويلة هذه المحددات حصرها المؤلف من وجهة نظره في ثلاثة جوانب لا تتجاوزها وهي: العقيدة، والقبيلة، والغنيمة ... وأحسب أنه لايزال في هذا الموضوع العقل السياسي زيادة لمستزيد ولم يكن تناول المؤلف لهذا الموضوع كافياً ولا شافياً.
لاحظ الجابري، عندما درس «بنية العقل العربي» أن التصنيف الشائع القديم للعلوم الإسلامية بتقسيمها إلى علوم نقلية وأخرى عقلية، أو علوم دين وعلوم لغة، أو علوم العرب وعلوم العجم، لاحظ أن هذه التصنيفات لا تقوم إلا على اعتبار المظاهر الخارجية وحدها، والتي تذكرنا بالتصنيف القديم للحيوانات حسب مظاهرها الخارجية وحدها: إلى حيوانات برية ومائية وبرمائية، لكننا بحاجة إلى تصنيف جديد للعلوم الإسلامية كما ظهر التصنيف الجديد للحيوانات إلى فقريات ولا فقريات؛ الأمر الذي فتح أمام علم البيولوجيا آفاقا جديدة خصبة وعميقةً.
لقد كان عمل الجابري في هذا البحث «نقد العقل العربي» محاولة للكشف عن هذا التصنيف الجديد، محاولة لدراسة البنية الداخلية للفكر الإسلامي، وإعادة التصنيف على أساس لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة: آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية. من هذا المنطلق جاء التقسيم الجديد عند المؤلف للعلوم الإسلامية وتيارات التفكير الإسلامي إلى ثلاثة علوم أساسية هي:
علوم البيان: وتشمل الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة.
علوم البرهان: وتشمل الفلسفة وخصوصاً فلسفة أرسطو!
علوم العرفان: وتشمل التشيع والتصوف والفلسفة الإشراقية.
كان الإمام الشافعي هو المؤسس للمنهج في العلوم البيانية، وكتابه «الرسالة» يعتبر «قواعد المنهج» للفكر الإسلامي، كما وضع ديكارت «قواعد المنهج» للفكر الفرنسي والأوروبي الحديث، وقد لخص رحمه الله تلك القواعد بقوله: «ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو القياس (الرسالة: 39) فجهة العلم بناء على هذا النص محصورة في أحد سبيلين: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير .. وعن الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشَكّلاً بذلك مدرسة البيانيين.
أما علوم العرفان وهي العلوم التي يقدم فيها العقل استقالته فتبدأ مع بداية الترجمة، عندما أمر خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85 ه) بترجمة كتب الكيمياء، والتنجيم، وكتب الطب اليونانية والقبطية، تلك الكتب التي تقدم رؤية هرمسية غنوصية للكون والإنسان، ثم كان لجابر بن حيان دور في نشر هذه النظرة الهرمسية، وشاركه في مثل هذا الدور الطبيب الرازي،
¥