تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم تطرق الجابري لحدث الوحي، ومفهومه، وللاتهامات التي وجهتها قريش لدعوى الوحي، إذ لم يكن مفهوم الوحي، بالمعنى القرآني، معروفا في معهود العرب اللغوي والثقافي، بل إن مفهوم النبوة أيضا لم يكن من معهودهم، فهذه المفاهيم مما نشأ مع الإسلام، وقد استطرد الجابري بعد ذلك في عرض نظرية النبوة ومفهومها عند المسلمين من المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة، كما تعرض لمفهوم الوحي في اليهودية والمسيحية، مبينا تميز مفهومه في الإسلام عنهما.

السيرة التكوينية للقرآن

أما القسم الثاني من كتابه، فقد خصصه الجابري لبحث مسارات الكون والتكوين للقرآن. واعتمد في بنائه، وفي تخطيط ما سيليه من بحثه على المفاهيم التي عبَّر بها القرآن عن نفسه، مع ملاحظة السياق التاريخي الذي جاءت فيه.

فقد لاحظ الجابري أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ «الذكر» ولفظ «الحديث»، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ «القرآن»، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر:21، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح «الذكر» و «الحديث» أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد.

أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:2، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم «الكتاب» على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب «أهل الكتاب»، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب «البائدة» عاد وثمود ومدين وغيرهم.

هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر: القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض الجابري في كتابه هذا اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني الذي وعد به القراء.

أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ الجابري هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور ـ وما عليه الجمهور ـ من هذه الآراء (3).

وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن فهو ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي.

أما فيما يتصل بترتيب النزول (4) فقد اهتم الجابري بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن "القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة ـ في كثير من الحالات ـ بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما" (ص243).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير