نحتاج اليوم إلى مؤسسات تنظم العمل الجماعي وتدفع به إلى أقصى حدود الإمكان، وتربي الأجيال على إمكانية التكامل والتعاون والتخلص من الأثرة والأنانية.
لنتأمل في هذا الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم // مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فيه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون لو وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين // فالنبي صلى الله عليه وسلم يعد نفسه لبنة في بناء النبوة،ولم يعد نفسه البناء كله ولم يجعل نفسه ركيزة البناء الأساسية، إنه صلى الله عليه وسلم يعترف للآخرين بفضلهم في إقامة البناء، والبناء كل متكامل مع الآخرين، واللبنات المتراصة والمتكاملة والمتماسكة هي التي تشكل البناء، وهكذا لم يستأثر النبي صلى الله عليه وسلم بمزايا إضافية على حساب إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. أين هذا من أخلاق العلماء والدعاة اليوم؟ إننا يسيطر علينا هاجس التفرد وتأسرنا عقلية المنقذ، وكل عالم وكل داعية يريد أن يكون أوحد عصره وفريد دهره، ولا يقبل أن يكون نسيجاً مشتركاً في جسد الدعوة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فما يوجد بين العلماء من مشاحنات ومنافسات ينعكس على التلاميذ وطلاب العم بل وحتى على عامة الناس والوسط الشعبي فتتكون تكتلات متناحرة ومتحفزة للخصام، ومهيأة للكراهية والعداوة.
وفي وسط هذه الصورة القاتمة يمكن أن ينجح الخطاب العلماني حين يظهر على أنه الخطاب البديل المتماسك الرزين المتآلف فيكسب الأنصار والجماهير اليائسة من الوسط المشايخي المتخاصم، والناقمة على تلك الحال العدائية المتردية بين رموز التيار الديني وجماهير التدين.
عاشراً:
إن المشكلة التي يعاني منها رموز التيار الديني أنهم لا يفرقون أو يخلطون عن قصد أو بغير قصد بين ما هو شخصي وما هو علمي، أو بعبارة أخرى: إنهم لا يفرقون أو يخلطون عن قصد أو بغير قصد بين ما هو لله وما هو للنفس. لقد أفسح لنا ديننا مجالاً رحباً للخلاف // ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم // ونماذج الخلاف في السنة والسيرة النبوية تؤسس لمشروعية الاختلاف ما دام الجميع من أهل القبلة، فلماذا إذن يؤدي الخلاف المذهبي أو الفقهي أو حتى الاجتهادي إلى العداوة الشخصية والكراهية، ولماذا نسمع صيحات النذير والتحذير بين العلماء فيما بينهم، ففلان لديه نفس شيعي لأنه استشهد أو يستشهد بآل البيت، وفلان لديه نفس وهابي لأنه يكثر من ذكر ابن تيمية، وفلان متهم بالتصوف لأنه يكثر من ذكر الجنيد وابن عربي وو الخ، ويولد ذلك أحقاد نفسية، وعداوات شخصية بين العلماء والدعاة ثم تنتقل العدوى إلى التلاميذ ثم إلى القاعدة الشعبية ثم تتأصل في النفوس فيرضعها الصغار وتتوارثها الأجيال.
وفي الغالب لا يشعر الإنسان في أوج حماسه، وحمأة خصامه أنه يخاصم عن أهوائه ومنافعه الشخصية، فيظن انه يدافع عن دين الله عز وجل، وأنه حريص على قمع البدعة ودرء الفتنة.
وكثيراً ما تلتبس الأهواء بالآراء، وما لله بما للنفس فلا تتمايز، ويحتاج الإنسان إلى مجهود كبير ليخلص نيته من الشوائب، يحتاج إلى وقفة تفحص لنفسه، ومحاسبة لذاته حتى يميز الخبيث من الطيب، ولكن في كثير من الأحيان يكون الإنسان في عجلة من أمره، ولا يمنح نفسه ذلك الوقت الكافي للمحاسبة والمراجعة، لأنه يخشى أن يؤتى الإسلام من قبله، هذا بحسب ما يخيل إليه، ولكن الحقيقة المؤلمة أنه لو تريث قليلاً واختبر نفسه لتبين له أنه يخشى أن تفوته منافعه وأهواؤه.
الخلاصة:
أن الحل لأزمة العلمنة التي تجتاح المجتمعات الإسلامية تبدأ أولاًً من تحصين الذات بحصون متينة، وتناول الجرعة الوقائية التي يمنحها الإسلام لمعتنقيه، لأن الدفاع أو الهجوم لا يجدي إذا كانت حصوننا مهددة من الداخل، لا يكفي أن نبين أمراض الآخرين ونحن مرضى، فلا بد أن نعالج أنفسنا وحين نتعافى نبدأ بتأسيس مراكز للوقاية واللقاح وحينئذ نكون على استعداد لمواجهة المشروع العلماني الذي نعتقد أنه تخريبي وتدميري ويخدم مصالح أعدائنا بالدرجة الأولى.
وقد بينت في الصفحات السابقة أن مكامن القوة هي في تفعيل ديننا وإعمال عقلنا، وأبرز المظاهر لذلك يبدو في:
- تفعيل دور الوحي / قرآناً وسنة / في رسم المنهجية الإسلامية للتعامل مع الكون والإنسان والحياة.
- التخلص من الأعباء التاريخية والتقاليد الاجتماعية التي لحقت بالدين وتقمصته وهي ليست منه.
- إعمال العقل في اكتناه أبعاد الوحي ومراميه الإنسانية الفسيحة، واقتناص اللحظة الراهنة بالعمل النافع والاستثمار الحضاري، وينتج عن ذلك التجديد الحقيقي المنخرط في الواقع العملي المعيش وعدم الاكتفاء بالتنظير العقلي والخيالي المجرد.
- الشعور بالمسؤولية الدينية وهذا لا يتأتى إلا بتعميق الإخلاص والعمل لوجه الله عز وجل، والتخلص من / الأنا / المتضخمة في دواخلنا، ومعالجة الأثرة المهيمنة على سلوكاتنا، وتغليب الشعور بالمسؤولية الحضارية على المسؤولية الشخصية، وتغليب الروح الجماعية والعمل الفريقي على الأنانية والفردانية. والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني:
[email protected]
¥