بالله عليك يا مدعي التخذيل خذل الباطل عن الحق وخذل عن نفسك صولات الشيطان، واجهر بالحق مرة ... وإلا استحالت عمامتك من اللون الأبيض حتى تصبح سوداء كالفحم الأصيل تتدرج على الطرق الرمادي.
ولكل أصحاب العمائم هذه التذكرة تثبيتاً لأصحاب البيضاء منها، وهزاً لقلوب السائرين في الطرق الملتوية لعلهم يرجعون.
كان المربي الشيخ آق شمس الدين هو الباني الأول لقلب وعقل السلطان محمد الفاتح، والذي لم يكن تجاوز العاشرة عندما كان أستاذه يمسك بيده ويمشيان معاً على شاطئ البحر المحيط بأسوار القسطنطينية الحصينة، ثم يقول له الأستاذ: أترى هذه الأسوار الشاهقة والمدينة العظيمة؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد: (لَتَفْتَحْنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش).
كان آق شمس الدين زراعاً للخير، بصيراً بمكامن النفوس وكان يتوجه إلى الله أن لايضيع له جهداً في تربية الأمير الصغير محمد (والذي صار بعد سنوات: السلطان محمد الفاتح).
السلطان مراد الثاني كان هو والد الأمير محمد، وكان يصطحبه معه إلى بعض المعارك، ليبني في نفسه روح المجاهد ونفسية القائد، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك كان له القدح المعلى فيها .... ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: (حسناً، عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر).
وحاصر السلطان القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، على يد بطل شاب له من العمر ثلاث وعشرون سنة.
أثناء فتح القسطنطينية أراد السلطان أن يكون شيخه جانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان نفسه! من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ! فأخذ محمد الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل فإذا بشيخه آق شمس الدين ساجدٌ لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله التمكن و الفتح القريب.
عاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى القسطنطينية، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالع مايلي مما حصل بعد يوم واحد من الفتح (جاء السلطان إلى خيمة
(آق شمس الدين) وهو مضطجع فلم يقم له، فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة، قال: وما هي؟ قال: أن أدخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى علي، فقال الشيخ: إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا، وذكر له شيئاً من النصائح - ثم أرسل السلطان إليه ألف دينار فلم يقبل، ولما خرج السلطان محمد الفاتح من عند الشيخ قال لبعض من معه: ما قام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو.
لم يحتل أحد في قلب محمد الفاتح مكانة مثلما احتلها أستاذه آق شمس الدين، وكان ينظر إليه بأعظم مشاعر الحب، والإجلال، والتوقير، ويزوره على الدوام، حيث يستمع لأحاديثه ونصائحه، ويستفيد من علمه الغزير.
أما آق شمس الدين فكان مهيباً لا يخشي سوى الله، لذا فإنه عند قدوم السلطان (محمد الفاتح) لزيارته، لا يقوم له من مجلسه، ولا يقف له. أما عند زيارته للسلطان (محمد الفاتح) فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيراً له، واحتراماً ويجلسه بجانبه.
وقد لاحظ ذلك وزار السلطان وحاشيته، لذا لم يملك الصدر الأعظم (محمود باشا) من أن يبدي دهشته للسلطان فقال له: لا أدري يا سلطاني العظيم، لم تقوم للشيخ (آق شمس الدين) عند زيارته لك، من دون سائر العلماء والشيوخ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له؟!. فأجابه السلطان: أنا أيضاً لا أدري السبب … ولكني عندما أراه مقبلاً علي، لا أملك نفسي من القيام له … أما سائر العلماء والشيوخ، فإني أراهم يرتجفون من حضوري، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ آق شمس الدين.
رسالة إلى أصحاب العمائم إذا وقفوا بين أيدي السلاطين، فما بالك عندما يقفون بين يدي العبيد.
كتبه: أحمد معاذ الخطيب الحسني
¥