يقول ريجي بلاشير عن بوادر ترجمة معاني القرآن الكريم التي انطلقت من بطرس المحترم سنة 536 ـ 538هـ/1141 ـ 1143م: «كانت المبادرة قد انبثقت عن ذهنية الحروب الصليبية. هذا ما تثبته الرسالة التي وجَّهها بطرس المحترم إلى القدِّيس برنار, مرفقةً بنسخة من الترجمة التي كانت قد أُعِدَّت, كما انبثقت في الوقت ذاته عن الرغبة الشديدة لإزالة كل أثر للإيمان الأول, من أذهان المسلمين المهتدين. وفي رأينا أنَّ الأهميَّة التي اتَّخذها القرآن في هذا المجال قد تجلَّت في الروح العسكرية التي استمرَّت حميَّتها حتَّى بداية القرن الرابع عشر, دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون لول المتوفَّى في بورجي سنة 1315م» (28).
يقول يوهان فوك, حول هذا الارتباط, أيضًا: «ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية. فكلَّما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوَّة السلاح, بدا واضحًا أنَّ احتلال البقاع المقدَّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم, بقدر ما أدَّى إلى عكس ذلك, وهو تأثُّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر» (29).
تنطلق ترجمة معاني القرآن الكريم, بعد أفول حملات الفرنجة (الصليبيين)، وبالتحديد من دير كلوني, بأمر من رئيس الدير بطرس المحترم/الموقَّر, كما مرَّ ذكره (30). ويؤكِّد محَمَّد ياسين عريبي في كتابه: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، ارتباط ترجمات معاني القرآن الكريم بالتنصير (31). كما يؤيِّده في هذا محَمَّد عوني عبدالرؤوف في أنَّ «الفكرة من الترجمة إذًا قد كانت من الكنيسة بعد أنْ اقتنعت أنَّ النصر لن يكون بالسلاح» (32).
يؤكِّده, كذلك, الباحثُ الدكتور محَمَّد بن حمَّادي الفقير التمسماني, في بحث له بعنوان: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها. حيث يجعل «حملات التبشير النصرانية, أحد أسباب بداية نشأة الاستشراق» (33).
يؤيِّده على هذا التوجُّه الأستاذ الدكتور محَمَّد مهر علي, في بحث له بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية، حيث يؤكِّد الأستاذ الباحث أنَّ ترجمات معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين لم تلقَ إقبالاً إلا لدى الدوائر التنصيرية (34).
يؤيِّدهما, كذلك, الدكتور عبد الراضي بن محَمَّد عبدالمحسن في بحث له بعنوان: مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، الذي يرى أنَّ التنصيرَ كان وراء ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث انطلقت الترجمة في رحلتها الأولى والثانية من الأديرة, وعلى أيادي القسُس, وأنَّ فكرة التنصير كانت وراء ترجمة معاني القرآن الكريم (35).
هذا يؤكِّد أهمية اضطلاع المسلمين أنفسِهم بمهمَّة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما قام به بعض أبناء هذه الأُمَّة مؤخَّرًا، وكما تقوم به مؤسَّسات علمية عربية وإسلامية, لها اعتباراتها المرجعية, ومنها, على سبيل المثال, الأزهر الشريف ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة, حيث وصلت ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة عن هذا المجمَّع إلى أكثر من أربعين لغة. وهذا جهد يذكر ويشكر.
الأصل أنْ تكون هناك ترجمة واحدة, قابلة للمراجعة ومعتمدة, لمعاني القرآن الكريم لكلِّ لغة، قصدًا إلى الحيلولة دون الاختلاف في المعنى باختلاف اللفظ، يأتي هذا في ضوء وجود أكثر من مئة وعشرين (120) ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، بعضها مكرَّر في لغة واحدة، قام بها عدد من المستشرقين، وبعض المسلمين, كالإنجليزية, التي زادت عدد الترجمات بها عن 80 ترجمة (36). وصلت طبعاتُها سنة 1423هـ/2002م إلى ما يزيد عن 890 طبعة, بعد أنْ كانت قد وصلت سنة 1400هـ/1980م إلى ما يزيد عن 269 طبعة, «سجَّلت تفاصيلَها المرجعيةَ بدقَّة الببليوجرافيا العالميةُ لترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة» (37).
¥