القضية الثانية التي سنعرضها هنا هي: تناسق الموضوعات في السور، حيث جاء في الموسوعة: “أما باقي السور الطويلة فهي تتناول مواضيع مختلفة تتحدث عنها مواضع مختلفة من السورة. وكأن القرآن يعطي للقارئ انطباعا بأنه مجرد انشاء جاء بطريقة عشوائية، وتؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات بآيات مثل: “إن الله سميع عليم”، “إن الله عليم حكيم”، “إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون” وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها وانما وضعت فقط لتتميم السجع والقافية.
وهذه الكلمات تتعلق بقضتين مهمتين وهما: موضوعات السور القرآنية وتناسقها، والفاصلة القرآنية.
وهذه القضايا تستدعي الحديث عن أسلوب القرآن وخصائصه الادبية، فقد نزل القرآن في أمة البيان، فكان الكلام بضاعتهم المفضلة وتجارتهم الرائجة، وكانوا يفضلون بين الكلام ويدركون منزلة كل نوع بأذواقهم، ويحسونه بفطرتهم قبل فطنتهم.
وكانوا رغم كفرهم بهذا القرآن وعدم ايمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم متأثرين بالقرآن الذي كان له تأثير وهيمنة وسلطان استولى على نفوسهم لأنهم وجدوا فطرتهم اللغوية وطبيعتهم الأدبية في هذا القرآن فوجدوا فيه ما لم يجدوه في الشعر من اقناع وهيبة وهزة. ووجدوه خالياً من الخشونة والبداوة، ولما خافوا من تأثيره عليهم قال بعضهم لبعض: “لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون”.
ومع ذلك جاء مستشرق هو (دوزي) وقال عن القرآن الكريم بأنه “كتاب ذو ذوق رديء للغاية، ولا جديد فيه الا القليل، وفيه إطناب بالغ وممل الى حد بعيد”.
فأين ما يقوله هؤلاء مع ما قاله الوليد مع أنهم يلتقون في الكفر بهذا القرآن؟ ولا يشك أحد أن الوليد كان أرفع منهم ذوقاً وأرهف حساً، بل لا مجال للمقارنة بينهم.
وأما الادعاء بأن القرآن ممل، فإن قضية الملالة والسآمة أو الرغبة والاقبال هي أمور نسبية، ومع ذلك فلسنا بحاجة الى دليل على بعد هذا القول عن الحقيقة، لأن “القرآن هو الكتاب الذي لا تمله الاسماع، ولا تعافه النفوس، لأنها تجد فيه أنسها، واذا كان هذا شأن المؤمنين بالقرآن فإن كثيرين من غيرهم سواء كان هؤلاء من التواقين للمعرفة أم من المحبين للجمال يجدون في هذا القرآن متعة وحلاوة”.
افتراءات المستشرقين
صحيح أن الناس يختلفون في مشاربهم، ولكن هناك قواعد عامة تظل هي المقياس الصحيح، إننا نقدر أدب شكسبير حتى لو لم نكن نتذوقه من لغته نفسها، والقرآن الكريم معجز في حقائقه العلمية والتاريخية ومعجز في بيانه كذلك، وهذا البيان لا يقف عند الجملة والفقرة والآية، بل يظهر في ترتيب السورة ونسقها كذلك. وهذا أمر فطن اليه الأئمة منذ القدم. ولذلك كانت لهم عناية في كشف اللثام عن متانة الترابط واحكام الصلة بين أجزاء كل سورة من سور القرآن.
ولكن كثيراً من المستشرقين وأخذت منهم مع كل أسف دائرة المعارف البريطانية حكموا على السور القرآنية حكما خاليا من التأمل، وقد يكون لهم عذر لجهلهم باللغة العربية، ولكن لا يمكن ان يكون لهم عذر في هذا الحكم البعيد عن مواطن الإنصاف.
لقد نظروا الى السورة الواحدة فوجدوها تتحدث عن العقيدة والقصة وقضيا الاخلاق فظنوا أن هذه الموضوعات المتفرقة لا يجمعها إطار واحد، وكان الانصاف يتطلب ترويا واجالة فكر، ولقد حاولوا تعليل هذه القضية التي أقنعوا انفسهم بها، وهي عدم الترابط بين أجزاء السورة بعلل مختلفة، فأرجعها بعضهم الى سذاجة الأسلوب وركاكته وأرجعها بعضهم الى غرض مقصود هو عدم الملالة والسآمة، وأرجعها آخرون الى ركاكة في المعنى، وفريق رابع زعم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يحسنوا ترتيب الموضوعات في السورة الواحدة، والمنطق العلمي يأبى ذلك كله.
ان تناسق الموضوعات في كل سورة من سور القرآن قضية مدهشة حقا، وبخاصة اذا عرفنا أن سور القرآن نزلت نجوما متفرقة، فسورة البقرة نزلت في عشر سنين، فاستوعبت الزمن المدني كله وحتى كثير من السور القصيرة كان بين الجزء والجزء الآخر منها أعوام عديدة، ومع ذلك حينما ننظر في السورة نجدها تكون وحدة موضوعية، متصلة الأجزاء محكمة الحلقات، وهذه ميزة يتفرد بها القرآن الكريم وحده.
ثم أفرد المؤلف فصلا لقضية الفاصلة القرآنية، والفاصلة القرآنية هي اللفظ الذي تختم به الآية، وهذه القضية متفرعة من تلك الكلمة التي خطتها الموسوعة البريطانية في دائرة معارفها تعريفا لمادة (قرآن)، وما كان ينبغي لها ان تنزلق في هذا المزلق الذي تتجنى فيه على القرآن بغير تأمل او بحث جاد موضوعي، مع أنها مصدر من مصادر المعرفة طالما روجوا له وأحاطوه بهالات فخمة من الاجلال والتبجيل، وسوّروه بأسوار البحث العلمي والنزاهة، ثم نجده بعيداً عن النزاهة في البحث منافيا لقواعد العدل وأسس المنطق، ورأيناها تدعي أن القرآن مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية.
منقول من صحيفة الخليج الإماراتية
http://www.alkhaleej.ae/articles/show_article.cfm?val=331928
¥