* سأحاول في هذه السلسلة تفكيك رموز أرى أنَّها أشدُّ فتكاً، وأخفى خطراً على المسلمين من سياسة القتل والإبادة والتدمير؛ ألا وهي سياسة التخريب والتذويب من أعداء الإسلام لعقول المسلمين، ومحاولة طمس لوامع وسمات التديُّن عند المسلمين، وفكِّ عرى العقيدة الإسلاميَّة التي أُمِرَ المسلمون أن يستمسكوا بها ويعضُّوا عليها بالنواجذ.
وخطر التذويب خفي لا يدركه إلاَّ القليل، ذلك أنَّ أعداء الإسلام يحاولون غرس أفكارهم في بيئة لها القابليَّة لارتشاف واستقطاب الوافدات المتغايرة الغربيَّة، والانمحاق المتتابع في المشروع الأمريكي والغربي.
وعودة لكلام "ريتشارد نيكسون" المذكور في استهلال هذا الموضوع فإنَّه يرجِّح أن يقدِّم الأمريكان استراتيجيَّة الترويض والتخريب لدين المسلمين، وتذويبهم في المجتمعات الغربيَّة؛ ونشر الشبهات، والتشكيكات بينهم، وجعل هذا الخيار هو الأمر الذي له الأولويَّة على الخيار الآخر.
ومن سياسة أعداء الإسلام في ذلك أنَّهم يمضون في بذر تلك الأفكار في البلدان الإسلامية بسياسة الهُوَيْنَى، والمشي البطيء، على منطق القاعدة اليابانيَّة: (نريد بطئاً ولكن أكيد المفعول) ولا يعنيهم أن يخرِّبوا العقول الإسلاميَّة خلال عام أو عامين، بل لو كان ذلك خلال ثلاثين عاماً أو أكثر؛ فلا بأس بذلك ما دامت طرقهم ووسائلهم ماضية ولا تعترضها العراقيل أو يناكفها المعارضون لها!
لقد استوقفتني كلمة قالها أحد الأمريكان لمهاجر من المسلمين، حين أخبره المسلم بأنَّه هاجر وعمل في أمريكا وبقي متمسِّكاً بدينه؛ فقال له الأمريكي: (نحن لا يهمُّنا أن تَتَأَمْرَكَ أنت، بل استقدمناك من أجل أنَّنا نريد أولادك!!) [4].
ومن هذا المنطلق فقد صدر العديد من الدراسات الأمريكيَّة التي تحاول تسليط الضوء على أهميَّة غزو الأفكار والعقول لمسلمي البلاد الإسلاميَّة؛ لفرض الهيمنة والأيديولوجيَّة الغربيَّة على الساحة الإسلاميَّة.
فهم يركِّزون في طروحاتهم الفكرية والاستراتيجيَّة، فضلاً عن المستقبليَّة، على الحديث عن هذا الجيل المسلم وهذه الأمَّة الولود، التي وقفت عقبة كؤوداً أمام مخطَّطاتهم؛ لأنَّهم يشعرون بأنهم في طريق الأفول والانهيار الحضاري، ومن قرأ دراسة (ما هي القوة؟) لـ (نيل فيرجسون) [5] أيقن بما ذكرته عنهم؛ حيث إنَّ هذا الرجل يقول بنصِّ الكلمة: (وإذا كنَّا نشهد ـ كما يجادل هنتنجتون ـ "صدام الحضارات"، فلا بدَّ أن يكون مما يستحق الاهتمام أنَّ حضارتهم ـ يقصد الحضارة الإسلاميَّة ـ تشهد نمواً بالمعنى الحرفي، أكثر من حضارتنا. وهي بالإضافة إلى ذلك حضارة أكثر شباباً بكثير ممَّا عليه حال الحضارة الغربية الهرمة) [6].
إنَّ من الأهميَّة بمكان أن نعلم بأنَّ أعداء المسلمين ـ زعماء وقادة وخبراء فكر وتخطيط ـ لديهم رؤية واضحة، واستراتيجيَّة ثابتة تجاه الإسلام، ونصوص القرآن خير شاهد على ما ندَّعيه فإنَّه ـ سبحانه ـ يقول: (إنَّهم يكيدون كيداً) ويقول أيضاً: (ويمكرون ويمكر الله)، إلى غير ذلك من الآيات الموضِّحة لخطر أعداء الإسلام ضدَّ المجتمعات الإسلاميَّة.
نعم! لا نقول بأنَّ الخلل كلَّه في الكفَّار فحسب، بل فينا ما فينا من التقصير والخلل الكبير ومن ذلك ضعف العقيدة، وقصور الهمَّة، ودونيَّة الإرادة لتغيير ما في النفوس والواقع المزري من أوهاق ومظاهر الضعف، وضعف التدين، وانفكاك الوحدة، إلى غير ذلك من التقصير الكبير.
بيدَ أنِّي موقن تماماً بأنَّ أعداء المسلمين لديهم من المكر والكيد الشيء الكثير، أضف إلى ذلك ضغوطهم السياسية والاقتصاديَّة التي يمارسونها على من كانت له نيَّة في إصلاح المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة؛ كيف وقد أخبرنا الله ـ تعالى ـ بقوله: (ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزَّل عليكم من خير من ربِّكم) وقوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم) وقوله: (ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقوله: (ودَّ الذين كفروا لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفَّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحق) وقوله: (ولا يزالون يقاتلونكم حتَّى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا).
¥