في الليل مظنة قلة المصلين على الميت، فنهى عن الدفن ليلاً حتى يصلى عليه نهاراً؛ لأن الناس في النهار أنشط في الصلاة عليه، وبذلك تحصل الكثرة من المصلين عليه، هذه الكثرة التي هي من مقاصد الشريعة وأرجى لقبول شفاعتهم في الميت.
قال النووي في (شرح مسلم): وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلى عليه، فقيل: سببه أن الدفن نهاراً يحضره كثير من الناس ويصلون عليه
ولا يحضره في الليل إلا أفراد، وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك لرداءة الكفن، فلا يتبين في الليل، ويؤيده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي r قصدهما معاً، قال: وقد قيل غير هذا".
* قلت: فإذا عرف أن العلة قلة المصلين وخشية رداءة الكفن، ينتج من ذلك أنه لو صلى عليها نهاراً، ثم تأخر دفنه لعذر إلى الليل أنه لا مانع من دفنه فيه، لانتفاء العلة وتحقيق الغاية وهي كثرة المصلين.
وعليه فهل يجوز التأخر بدفن الميت في النهار تحصيلاً للغاية المذكورة؟
استحسن ذلك الصنعاني في (سبل السلام) (2/ 199)، ولست أرى ذلك لأن العلة المذكورة مقيدة بالليل فلا يجوز تعديتها إلى النهار لوجود الفارق الكبير بين الظرفين، فإن القلة في الليل أمر طبيعي، بخلاف النهار، فالكثرة فيه هي الطبيعي ثم إن هذه الكثرة لا حد لها فكلما تُؤخِّر بالميت زادت الكثرة ولذلك نرى بعض المُترفين الذين يحبون الظهور رياءً وسمعةً، ولو على حساب الميت قد يؤخرونه اليوم واليومين ليحضر الجنازة أكبر عدد ممكن من المشيعين، فلو قيل بجواز ذلك لأدى إلى مناهضة الشارع في أمره بالإسراع بالجنازة بعلة الكثرة التي لا ضابط لها.
بعد هذا يتبين لنا الجواب عن الإشكال الذي أوردته في قوله: "حتى يصلى عليه" إذ إنه ظهر أن المراد حتى يُصلىَ عليه نهاراً لكثرة الجماعة، كي تُبين أن اسم الإشارة في قوله: "إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك" يعود إلى الدفن ليلاً ولو مع قلة المصلين، لا إلى الدفن مع ترك الصلاة عليه إطلاقاً، فليتأمل فإنه حقيق بالتأمل.
ثم قال النووي في (شرح مسلم): وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يستدل له به وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأن أبا بكر الصديق t وجماعة من السلف دفنوا ليلاً من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، والرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفن ليلاً وسأل النبي r فقالوا: توفِّي ليلاً فدفناه في الليل، فقال: "ألا آذنتموني" قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم، وأجابوا عن هذا الحديث أن النهي كان لترك الصلاة، ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما لترك الصلاة أو لقلة المصلين، أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع
كما سبق.
قلتُ ـ الألباني ـ: والجواب الأول ـ وهو أن النهي كان لترك الصلاة ـ لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن ثمة فرق بين الدفن ليلاً أو نهاراً كما سبق بيانه، بل الصواب أن النهي إنما كان للأمرين الذين سبقا في كلام القاضي، ولذلك اختار ابن حزم أنه لا يجوز أن يدفن أحد ليلاً إلا عن ضرورة، واستدل على ذلك بهذا الحديث، ثم أجاب عن الأحاديث الواردة في الدفن ليلاً، وما في معناها من الآثار بقوله في (المحلى)
(5/ 114 - 115): "وكل من دُفِنَ ليلاً منه r ومن أزواجه ومن أصحابه رضي الله عنهم فإنما كان ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف الحر على من حضر ـ وهو بالمدينة شديد ـ أو خوفِ تغيُّرٍ أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً، ولا يحل لأحد أن يظن بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك". ثم روى كراهة الدفن ليلاً عن سعيد بن المُسيِّب وأقول ـ الألباني ـ: ومن الجائز أن بعض من دفن ليلاً كانوا قد صلوا عليه نهاراً، وحينئذٍ
فلا تعارض على ما سبق بيانه، وذلك هو الواقع في حقه r ، فإنهم صلوا عليه يوم الثلاثاء ثم دفنوه ليلة الأربعاء كما ذكر ابن هشام في "سيرته" (4/ 314) عن ابن إسحاق، والله أعلم". انتهى
* قلتُ: وقد وردت أحاديث صريحة في النهي عن الدفن بالليل مطلقاً ولكنها لا تصح، منها حديث جابر مرفوعاً: "لا تَرمِسوا موتاكم، لا تدفنوا بليل".
أخرجه العقيلي (3/ 474 - 475) من طريق القاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر مرفوعاً.
والقاسم واهٍ, وأخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (318) من طريق محمد ابن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أبيه، عن جابر، وزاد: "قالوا: وما الرمس؟ قال: دفن الليل، فإنه يُترك ولا يُنظر في أمره".
ويُنظرُ: مَنْ محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل؟
والصحيح: ما قدمته من جواز الدفن بالليل, وهو مذهب جماهير العلماء ولم أقف على من كرهه من السلف الأول إلا عن الحسن البصري، وقد روى الطحاوي في (شرح المعاني) (1/ 513) عنه ما يدل على أن ذلك لعلة لا مطلقاً. فرُويَّ عن أشعث، عن الحسن أن قوماً كانوا يسيئون أكفان موتاهم، فيدفنونهم ليلاً، فنهى رسول الله r عن دفن الليل وهو مرسل كما ترى، والله أعلم.
****
¥