ولأنه يعلم أن كثيراً من الناس يقف مبهوراً أمام كثرة المناصب والشهادات، دأب على كتابة "نياشيه" في كتبه، فيذكر تخرجه في كلية "الطب البيطري"، ثم ترقيه من رتبة "المعيد" إلى "الدكتوراه"، إلى تعيينه "بقرار وزاري"
ـ ويضعها بين قوسين كأنه "قرار سماوي" ـ عضواً باللجنة الفلانية،
ثم دراسته في كلية الآداب، ثم حصوله على دكتواره في "الفلسفة"
ـ هكذا كتبها عمداً ـ ثم حصوله على إجازة في القراءات ... إلخ، فلقد ظن الرجل أنه بهذه "الشهادات" قادر على محو علماء الأمة بجرة قلم، وقد علم القاصي والداني أن هذه الشهادات لا تُعطي صاحبها علماً، فضلاً عن الأدب، إنما تفتح له الباب حسب، وأما الرجل فإنه يقبع تحت خط الفقر في العلم والأدب معاً، وقد ذكرتني "نياشيه" صاحب القط فهل تعرفه؟
فقد حكوا أن رجلاً كان يحمل قطاً، فقابله رجل فقال له: ما هذا القط؟ وقابله ثانٍ فقال له: ما هذا الهر؟ وقابله ثالثٌ فقال له: ما هذا السِّنَّوْرُ؟ وقابله رابعٌ فقال: ما هذا السبع؟ وقابله خامس فقال: ما هذا السبع؟ وقابله خامسٌ فقال: ما هذا الخيطل؟ وقابله سادس: ما هذا الهِزَبْرُ؟ فقال الرجل: كل هذه الأسماء؟! لابد أن ثمنه كبير فذهب إلى السوق يُمنِّي نفسه بالغنى، فوقف يعرضه للبيع فكان ثمنه درهماً واحداً، فرماه على الأرض وقال: قاتلك الله، ما أكثر أسماءك وأقل غناءَك!!
تصدر للتدريس كلُ مُهوَّسٍ
بليدٍ تسمَّى بالفقيه المُدرِّسِ
فحُقَّ لأهلٍ العلمِ أن يتمثَّلوا
ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسِ
لقد هَزُلت حتى بدا من هُزَالها
كُلاها وحتى سامها كلُّ مُفلِسِ
أكثر "البيطري" من ذكر "المنهجية" و "الحياد العلمي"، وكرر كثيراً قوله "أيها القارئ المحايد" فهل تدري أيها القارئ ما معنى "الحياد"؟ إنه ترك الانتماء إلى السلف، فهُمْ عنده ناسٌ "مجرد ناس" لا فضل لهم؛
لأنهم يزعمون أن الانتماء داعيةُ "الانحياز"، وأنك إذا أحببتهم، وانتميت إليهم، فلن ترى عيوبهم، ولا أخطاءهم، ومن أثر ذلك أنك ستحاول إيجاد مخارج لكلامهم المنافي "للعقل السوي"!! وهذا "الحياد العلمي" هو الذي جعل "طه حسين" ينظر إلى القرآن المجيد على أنه كتابٌ أدبيٌّ، وينبغي أن نعرضه للنقد بهذا الاعتبار، لأنك لو اعتبرته من هند الله، فلابد أن تُذعِن له، وإذا مرَّ بك ما لم تستسغه، فلا مناص من أن تتهم نفسك، لأنه لا يتهم ربه إلا كافر!!
فلقد تطاول "البيطري" على أبي هريرة الصحابي الجليل، حافظ الصحابة، وأحد المجتهدين في الفقه، فعامله على أساس أنه "رجلٌ" مجرد رجل.
فقد قال في كتابه (ص 398): "فقد كان أبو هريرة t يكثر من رواية الحديث عن رسول الله r ويسرده سرداً ككلام الناس، ويُكثر من رواياته العديدة في المجلس الواحد، فضلاً عن كونه (رحمه الله) كان غير ضابط لنقل الرواية، مما جعل السيدة عائشة رضي الله عنها تُنكِر ذلك عليه .. وكذلك أوهامه وظنونه التي وضعت المفاسد العظيمة في الدين (بحُسنِ نيةٍ منه رحمه الله) مما يجعلنا نفكر ألف مرة قبل أن نسلم لأية رواية
في الحديث، مهما كانت صحيحة لأي راوٍ من الرواة على وجه العموم، ولروايات أبي هريرة t ـ مهما كانت موثقة ـ على وجه الخصوص".
ثم أورد كلمة لعائشة رضي الله عنها، علَّقتْ بها على حديث حدث به أبو هريرة t ، قالت فيها: "أساء أبو هريرة سمعاً فأساء إجابةً". فعلق البيطري قائلاً: "وقد كان هذا يكفي أن يكف أبو هريرة t عن رواية الحديث كليةً بعد ذلك، أو ألا يؤخذ عنه الحديث بالمرة، لعدم ضبطه رحمه الله للرواية، لا أن يكون أكثر الرواة حديثاً على الإطلاق، فإن هذا من أعجب العجب".
وصرح بمثل هذا الكلام الهابط كثيراً في كتابه.
فإذا كان "البيطري" يتكلم هكذا عن الصحابة، فكيف عن آحاد العلماء؟
وأنا لن أدعك تفكر أو "تتخيل" طريقته في الكلام عن العلماء، فقد ذكر حديثاً رواه الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" ثم علق عليه قائلاً
¥