كرواية همام بن يحيى عن قتادة، فهمام ثقة، ولكن روايته عن قتادة متكلم فيها، فلا تصمد لرواية الثقات الأثبات عن قتادة، في حال التعارض، كرواية سعيد بن أبي عروبة وشعبة بن الحجاج وهشام الدستوائي عن قتادة، وهم أثبت الناس في قتادة، رحمه الله.
ورواية داود بن الحصين عن عكرمة، فداود مستقيم الحديث، كما ذكر ذلك أبو داود، صاحب السنن، رحمه الله، ولكن أحاديثه عن عكرمة مناكير، كما حكى ذلك علي بن المديني وأبو داود.
ورواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، فهو ثقة في أحاديث الشاميين، ضعيف في أحاديث الحجازيين.
وحديث البصريين عن معمر بن راشد البصري، فهو بصري المولد، ولكنه سكن اليمن، ولما سافر إلى البصرة، نسي كتبه في اليمن، فحصل فيما حمله عنه أهل البصرة بعض الوهم.
وعلى العكس، قد يكون الراوي متكلما في حفظه، ومع ذلك يوثق في روايته عن شيخ معين، لاختصاصه بملازمته:
كأن يكون حفيدا له، كما في رواية إسرائيل عن جده أبي إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد الله، وقد صرح هو نفسه بذلك، فقال بأنه يحفظ حديث جده كما يحفظ سورة الحمد، أو كلمة نحوها، وعلى هذا اعتمد الإمام البخاري، رحمه الله، في ترجيحه وصل حديث: (لا نكاح إلا بولي)، من رواية إسرائيل، على إرساله من رواية شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق، وهما من هما في الحفظ والإتقان، لاختصاص إسرائيل بأحاديث جده، كما تقدم، فلا يضره مخالفة شعبة وسفيان له، رغم عظم شأنهما، وتقدمهما عليه، في الجملة، في الحفظ والإتقان، ناهيك عن توافر قرائن أخرى، حملت البخاري، رحمه الله، على ترجيح رواية إسرائيل، منها متابعة 10 من الرواة له ..... الخ، مما يطلب تفصيلا في كتب المصطلح، وإلى هذه المسألة أشار العراقي، رحمه الله، في ألفيته، بقوله:
ونسب الأول للنظار ******* أن صححوه وقضى البخاري
بوصل لا نكاح إلا بولي ******* من كون من أرسله كالجبل
ومحل الشاهد ابتداء من قوله: "وقضى البخاري"، فقد قضى بوصل هذا الحديث، مع كون من أرسله، (أي رواه منقطعا، بالمعنى العام للإرسال)، في الحفظ والإتقان كالجبل، فشعبة وسفيان، كما تقدم من جبال الحفظ والإتقان، والله أعلم.
أو يكون الشيخ زوجا لأمه، كما في رواية حماد بن سلمة، وقد وقع له بعض الوهم إلا أنه ثقة في مجمل أمره، عن ثابت البناني، فحماد ربيب ثابت، نشأ في حجره، فسمع منه وأتقن حديثه، ولذا احتج به مسلم في ثابت فقط، وكما في رواية محمد بن جعفر، الشهير بـ "غندر"، أي المشاغب عن زوج أمه شعبة بن الحجاج، فغندر، متكلم في حفظه، دون كتابه، ومع ذلك فهو مقدم في شعبة على غيره لأنه لازمه أكثر من غيره.
أو يكون غير قريب له، ولكنه من الملازمين له، كما في رواية أبي بكر الحميدي، صاحب المسند، عن شيخه سفيان بن عيينة، فهو أثبت الناس في سفيان، وكذا سفيان أثبت الناس في شيخه عمرو بن دينار.
أو يكون الراي ضعيفا، ولكن الإمام الناقد ينتخب من أحاديثه ما صح، وعليه يحمل صنيع كثير من الأئمة المتقدمين:
فالبخاري، رحمه الله، ينتخب من أحاديث شيخه إسماعيل بن أبي أويس، رحمه الله، ما صح، حتى كان إسماعيل يفخر بذلك، ويحدث بهذه الأحاديث الجياد التى انتخبها البخاري، رحمه الله عليه.
واحتج البخاري، رحمه الله، بعمرو بن مرزوق، رحمه الله، وهو ثقة صالح في نفسه متكلم في حفظه، لأنه شغل بالغزو عن الحفظ والإتقان، فانتقى صحيح حديثه دون سقيمه.
واحتج، أيضا، بخالد بن مخلد القطواني، رحمه الله، وهو صدوق، متكلم في حفظه، في سليمان بن بلال المدني، رحمه الله، وفي شيوخه المدنيين، فقط، لأنه متقن فيهما دون ما سواهما.
فالبخاري، كغيره من النقاد، ينتقي من أحاديث الشيخ الضعيف أو الصدوق المتكلم في حفظه ما صح منها، ولا شك أن هذا عمل يتطلب إحاطة كاملة بطرق ومخارج الروايات، وهو أمر تميز به المتقدمون دون المتأخرين.
¥