ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[10 - 03 - 06, 09:27 م]ـ
"
انتفاء التدليس عن الصحابة
التدليس منتفٍ عن الصحابة كلهم رضي الله عنهم، وقد حقق هذا المعنى العلامة المعلمي رحمه الله في (الأنوار الكاشفة) فقال (ص159–161):
(قال الخطيب في (الكفاية) (ص357): (تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه).
ومثال هذا أن قتادة كان سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس ما لم يسمعه هو من أنس، فربما روى بعض ذلك بقوله (قال أنس …) ونحو ذلك. ثم ذكر الخطيب (ص358) ما يؤخذ على المدلس، وهاك تلخيصه بتصرف:
أولاً: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه.
ثانياً: إنما لم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي.
ثالثاً: الأنفة من الرواية عمن حدثه.
رابعاً: إيهام علو الإسناد.
خامساً: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال.
أقول [القائل المعلمي]: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم من قول أحدهم فيما سمعه من صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال النبي صلى الله عليه وسلم".
أما الأول: فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عُني الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة "صحيح مسلم" عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم …)؛ فمن حينئذ التزم أهل العلم الإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس، وصار المتبادر من قول من قد ثبت لقاؤه لحذيفة "قال حذيفة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول … " أو نحو ذلك: أنه أسند، ومعنى الإسناد أنه ذكر من سمع منه، فيفهم من ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة كان موهماً خلاف الواقع.
وهذا العرف لم يكن مستقراً في حق الصحابة، لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عُرفهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: (قال النبي صلى الله عليه وسلم …) كان محتملاً أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون سمعه من صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن في ذلك إيهام.
وأما الثاني فلم يكن ثم احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضي، لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر - يثق به وثوقه بنفسه - عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي.
وأما الثالث فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم.
وأما الرابع فتبع للأول.
وأما الخامس فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إن كان هناك واسطة فهو صحابي آخر) انتهى كلام المعلمي رحمه الله.
وسبقه إلى نفي التدليس عن الصحابة بكلام جليل العلامة المحقق ابن رشيد السبتي رحمه الله في (السَّنَن الأبْيَن والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) (ص63– 65) فقال:
(فإن قيل: قد وجد الإرسال من الصحابة رضي الله عنهم وممن بعدهم ممن يعلم أو يظن أنه لا يدلس عمن لقيه وسمع منه؟
قلنا: أما حال الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الذين وجبت محاشاتهم عن قصد التدليس فتحتمل وجوهاً:
منها أن يكونوا فعلوا ذلك اعتماداً على عدالة جميعهم، فالمخوف في الإرسال قد أمن؛ يدل على ذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه؛ ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" قال: نا موسى بن إسماعيل وهدبة قالا نا حماد بن سلمة عن حميد أن أنساً حدثهم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فغضب غضباً شديداً وقال: والله ما كل ما نحدثكم سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن كان يحدث بعضنا بعضاً، ولا يتهم بعضنا بعضاً.
قلت: ولذلك قبل جمهور المحدثين، بل جميع المتقدمين - وإنما خالف في ذلك بعض من تأصل من المحدثين المتأخرين – مراسل الصحابة رضي الله عنهم؛ وعلى القبول محققو الفقهاء والأصليين.
ومنها أن يكونوا أتوا بلفظ (قال) أو (عن)؛ ولفظ (قال) أظهر إذ هو مهيع الكلام قبل أن يغلب العرف في استعمالهما للإتصال.
ومنها أن يكونوا فعلوا ذلك عند حصول قرينة مفهمة للإرسال مع تحقق سلامة أعراضهم وارتفاعهم عن مقاصد المدلسين وأغراضهم.
¥