ثم إن المتن - وعليه المعول في القول بجمع التقديم – لا يعرفه الحفاظ، ولم يثبت عندهم إلا من حديث قتيبة هنا، وروي من حديث هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ ? ()، وهشام بن متكلم فيه، وخالف أصحاب أبي الزبير كلهم في روايته لهذا المتن ().
ولو كان المتن صحيحاً ثابتاً عن النبي ? لاشتهر بين المحدثين، ولتعدَّدَتْ طرقُه، لا سيما مع توفر الدواعي لنقله، لتعلقه بأمر يحتاج إليه الناس، وهي رخصة جمع التقديم في السفر.
أضف إلى هذا؛ أنه قد ورد من عدة أحاديث جمع الصلاة في غزوة تبوك، وجاءت من رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ ?، لكنها وردت في مطلق الجمع، ولم تنص على جمع التقديم، أو على هذا التفصيل الذي جاء به هذا الحديث.
هذه الأمارات كلها جعلت الحاكم وعدد من الحفاظ يستنكرون الحديث ويستغربونه، ويحكمون عليه بالشذوذ، وربما اكتفوا في إعلاله بالإشارة إلى تفرد قتيبة بن سعيد ().
بعد هذا كله توصل البخاري بعمق نظره، وطول باعه، ونور بصيرته في هذا العلم، الذي حباه الله إياه، إلى موضع الخلل، وأصل الوهم في الحديث، وهو أن قتيبة سمع من الليث هذا الحديث مع خالد المدائني، وخالد متهم، كان يدخل الأحاديث على الشيوخ فأدخل هذا المتن، بسند مركب، وجعله من حديث الليث.
فبان بهذا أن السند ملفق، وأن المتن مركب على هذا السند ().
? المثال الثاني:
ومثل الحاكم للشاذ بحديث آخر: رواه محمد بن أحمد المحبوبي، عن أحمد بن سيَّار، عن محمد بن كثير العبدي، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر ? قال: «رأيت رسول الله ? في صلاة الظهر يرفع يديه إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع» ().
قال الحاكم (): «وهذا الحديث شاذُّ الإسنادِ والمتن؛ إذ لم نقفْ له على علة، وليس عند الثوري عن أبي الزبير هذا الحديث، ولا ذَكَرَ أحدٌ في حديث رفع اليدين أنه في صلاة الظهر أو غيرها. ولا نعلم أحداً رواه عن أبي الزبير غير إبراهيم بن طَهمان وحده، تفرد به ()، إلا حديثٌ يحدِّث به سليمانُ بن أحمد الْمَلَطي من حديث زياد بن سوقة وسليمان متروك يضع الحديث.
وقد رأيت جماعة من أصحابنا يذكرون أن علته أن يكون عن محمد بن كثير، عن إبراهيم بن طَهمان، وهذا خطأ فاحش، وليس عند محمد بن كثير عن إبراهيم بن طَهمان حرف».
فالحاكم حكم على هذا الحديث بشذوذه سنداً ومتناً، أما المتن فلا يعرف تقييد رفع اليدين أنه كان في صلاة الظهر، إنما جاءت بهذا السند وحده.
وهذا السند شاذ، لأنه لا يعرف من حديث أبي الزبير عن جابر ?، ونسخة أبي الزبير عن جابر ? نسخة مشهورة ومعروفة بين الحفاظ، والراوي عن أبي الزبير سفيان الثوري، وهو إمام؛ بل أمير المؤمنين في الحديث، ولو كان عند الثوري عن أبي الزبير لرواه أصحاب الثوري وتلامذته وهم كثر.
ولا يعرف الحفاظ هذا الحديث إلا من رواية إبراهيم بن طَهمان عن أبي الزبير، وليس في متنه ذكر صلاة الظهر، وقد تكلم فيه الحفاظ أيضاً ().
فهذا الحديث ليس له أصل عند المحدثين، أي لا يعرفونه، ولا يحفظونه، وقد نقل الحافظ عن بعض الحفاظ أنه جعل علته احتمال الخطأ في الرواية، بأن الحديث يرجع إلى ابن طَهمان، وأن محمد بن كثير أخطأ فجعل سفيان الثوري مكان إبراهيم بن طَهمان، لكن الحاكم ردَّ ذلك لكون محمد بن كثير ليس له رواية عن ابن طَهمان حتى يخلط بينه وبين الثوري.
إذن مقتضى كلام الحاكم أن الحديث مردود، مع أنه لم تعرف علته، أو من أخطأ فيه.
? المثال الثالث:
وأما المثال الثالث فهو ما رواه محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثُمَامة، عن أنس ? قال: «كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ ? بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأَمِيرِ» ().
قال الحاكم (): «وهذا الحديث شاذ بمرة، فإن رواته ثقات، وليس له أصل عن أنس ?، ولا عن غيره من الصحابة بإسناد آخر».
عدَّ الحاكم هذا الحديث شاذاً، فإنه ليس له أصل عن أنس ?، ولم يأتي عنه إلا من هذا الطريق، ولم يروَ عن غيره من الصحابة}.
فالحاكم حكم عليه بالشذوذ، لأنه لا يعرف من حديث أنس ?، وحديث أنس ? مشهور معروف، وأصحابه من كبار الحفاظ والمحدثين كقتادة، والأعمش، وثابت البُنَاني، والحسن البصري، وحميدٌ الطويل، وغيرهم من الأئمة.
¥