وأما أن بعض الأئمة نص على شهرة القصة, فالكل يعلم أن شهرة قصة ما لا تدل على صحتها, بله جواز الاحتجاج بها, ولو لاحظ القارئ الكريم قول ابن عبد البر: (يقال) لعلم أنه يشير إلى عدم ثبوتها عنده والله أعلم, كما هو المعلوم من صيغ التمريض.
وأما القرينة الخامسة فلا حاجة تدعو لردها لأني وجدتها لا تزن شيئا.
الشاهد التاسع: عمر يخرج كنزا من بيت المال
ذكر قصة رواها الطبري في التاريخ وأبو الشيخ في طبقات المحدثين وأوردها ابن حبان في الثقات والحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
قلت: كذب ابن الأزرق, فلم يسنده الطبري القصة إنما قال: (وقد كان فيما ذكر لي) , وليس هذا من الإسناد في شيء, وسند القصة في الطبقات: حدثنا محمد بن عمر بن حفص قال ثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان قال ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال ثني النهاس بن قهم القيسي عن القاسم بن عوف عن أبيه أو عن رجل عن السائب بن الأقرع عن عمر.
وهذا الإسناد ضعيف, النهاس القاص ضعيف, والرجل الذي يروي عن السائب مبهم, والقاسم بن عوف هو الشيباني روى له مسلم ووثقه ابن حبان وضعفه شعبة و أبو حاتم والنسائي وقال ابن عدي: يكتب حديثه.
الشاهد العاشر عثمان يختار الموت بدل النصر
ذكر رواية عن نائلة زوج عثمان رضي الله عنهما في رؤياه أبا بكر وعمر يبشرانه بالشهادة. وقال في الهامش: مصنف ابن أبي شيبة ومسند أحمد ومنامات ابن أبي الدنيا وفضائل الصحابة ومستدرك الحاكم وصححه.
قلت: على هذا مؤاخذتان
الأولى: أن في إسناد الرواية المذكورة زياد بن عبد الله بن حدير الأسدي عن أم هلال بنت وكيع. وهما مجهولان, قال الحافظ في زياد في تعجيل المنفعة: (روى عنه داود بن أبي هند فقط وفيه نظر) وقال في أم هلال: (لا تعرف) ولذلك قال الهيثمي في المجمع (7/ 232): فيه من لم أعرفهم.
الثانية: أن الحاكم لم يروه بهذا السياق ولا بهذا الإسناد, فالذي عنده من طريق كثير بن الصلت قال: (أغفي عثمان ... ) ,وليس فيه (ليقتلنني القوم) أو ما يشبهه. وهذا تزوير قبيح. وخلاصة هذا أن عثمان لم يجزم بتحقق الشهادة, ولكنه طابت نفسه لتلك البشرى, ولم يجعلها سببا لترك الدفاع عن نفسه, إنما خاف الفتنة على الناس.
قال: بل إنه استند إليها فصام يوم قتله وقرر أمرا عظيما وهو الاستسلام للثوار.
فانظر كيف أنهى الخلافة لرؤيا رآها, ثم يأتي شرذمة من ذراري المسلمين فيبدعون من يعظم الرؤيا ويعمل بها فيما لا خطر له ولا شأن
قلت: عجبا لابن الأزرق, من أين له أن عثمان أنهى الخلافة لأجل الرؤيا, مشكلة ابن الأزرق تسرعه, فإنه لو سأل أهل العلم لأفادوه عكس ذلك, فقد روى سعيد بن منصور في سننه (رقم 2936) بإسناد جيد عن أبى هريرة قال: (كنت محصورا مع عثمان بن عفان في الدار فرمي رجل منا فقتل فقلت لعثمان: يا أمير المؤمنين أم طاب الضراب؟ , قتلوا رجلا منا فقال: عزمت عليك يا أبا هريرة إلا طرحت سيفك, فإنما تراد نفسي, وسأقي المؤمنين اليوم بنفسي, قال أبو هريرة: فرميت بسيفي فما أدري أين هو حتى الساعة).
وهذا فاصل في المسألة, فاستسلام عثمان كان حرصا منه على دماء المسلمين رحمه الله تعالى, لا لرؤيا رآها في منامه. وقد روى ابن عساكر في تاريخه أن عليا أرسل إلى عثمان: (إن معي خمسمائة دارع فأذن لي فأمنعك من القوم, فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك, قال: جزيت خيرا ما أحب أن يهراق دم في سببي).
وهذا هو فقه الصحابة الذي طرحه ابن الأزرق وأصحابه وحادوا عنه إلى الأخذ بالرؤى والهلوسات في كبائر الأمور. قدم عثمان نفسه لهم وهي مفسدة دفعا لمفسدة أعظم منها في نظره, وهي فشو القتل في بقية الصحابة.
وقد ورد عند ابن أبي الدنيا في المنامات أيضا وابن عساكر من طريقه في تاريخه عن كثير بن الصلت قال: (دخلت على عثمان بن عفان وهو محصور ,فقال لي عثمان: يا كثير بن الصلت, ما أراني إلا مقتولا يومي هذا, قال: قلت: ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين. قال: ثم أعاد علي, فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا من يومي هذا ,قال: قلت: وُقت لك في هذا اليوم شيء, أو قيل لك شيء؟ قال: لا, ولكني شهدت في ليلتي هذه الماضية, فلما كان عند السحر أغفيت إغفاءة, فرأيت فيما يرى النائم رسول الله وأبا بكر وعمر ,ورسول الله يقول لي: يا عثمان, إلحقنا, لا تحبسنا فإنا ننتظرك , قال: فقتل من يومه ذلك.)
¥