والأداء باللفظ محقق لصاحبه ثواب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الحديث المتقدم.
لكن ذلك لا يتجاوز درجة الاستحباب، وقد كان محمد بن سيرين من أشد من كان يبالغ في الألفاظ، ومع ذلك كان يقول: " كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد " (566).
فلم يمنعه تشدده في أداء الحديث بلفظه الذي سمع، أن يكون سمعه ممن فوقه على المعنى.
وحيث إن العبرة في نصوص السنة ما تدل عليه من الأحكام والشرائع، فإن الأداء للحديث بمعناه عند مشقة الإتيان بلفظه، محقق للغرض، ما دام المعنى صحيحاً موافقاً لدلالة أصل لفظه.
نعم، الرواية بالمعنى استعمال الراوي لاجتهاده في الألفاظ في سياقه الحديث، وهذا قد يقع له فيه الغلط، ولذا، فإن من صور العلل الواردة على الأحاديث النبوية: التعليل بالخطأ بسبب الرواية بالمعنى.
وتتفرع عن هذا المبحث مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز اختصار الحديث؟
عن عبد الله بن المبارك، قال: " علَّمنا سفيان اختصار الحديث " (567).
وذهب بعض أئمة الحديث إلى المنع من ذلك.
قال يحيى بن آدم: " ما رأيت أحداً يختصر الحديث إلا وهو يخطئ، إلا ابن عيينة " (568).
وقال العباس بن محمد الدوري: سئل أبو عاصم النبيل: يكره الاختصار في الحديث؟ قال: " نعم؛ لأنهم يخطئون المعنى " (569).
قال الخطيب وقد ذكر اختلافاً لأهل العلم بالحديث في ذلك جوازاً ومنعاً: " الذي نختاره في ذلك: أنه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم وشرط وأمر لا يتم التعبد والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه، فإنه يجب نقله على تمامه، ويحرم حذفه؛ لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به، فلا فرق بين أن يكون ذلك تركاً لنقل العبادة، كنقل بعض أفعال الصلاة، أو تركاً لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها، وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال: لا يحل اختصار الحديث " (570).
ثم بين الخطيب بما لا مزيد عليه الصورة التي يجوز معها الاختصار للحديث، أو تقطيعه، بما يجمع بين مذاهب العلماء ويجري على المعقول الصحيح، فقال:
" فإن كان المتروك من الخبر متضمناً لعبارة أخرى، وأمراً لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه، ولا شرطاً فيه؛ جاز للمحدث رواية الحديث على النقصان، وحذف بعضه، وقام ذلك مقام خبرين متضمنين عبارتين منفصلتين وسيرتين وقضيتين لا تعلق لإحداهما بالأخرى، فكما يجوز لسامع الخبر فيما تضمنه مقام الخبرين اللذين هذه حالهما رواية أحدهما دون الآخر، فكذلك يجوز لسامع الخبر فيما تضمنه مقام الخبرين المنفصلين رواية بعضه دون بعض " (571).
قال الخطيب: " وإن كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى، كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى، دون من لم يجز ذلك " (572).
وفي اختلاف الفقهاء مسائل عديدة، يعود سبب اختلافهم فيها إلى اختلاف روايات الحديث اختصاراً وإتماماً، فيستدل كل فريق بما وقع له من الرواية، والواجب في هذا أن تعاد الرواية المختصرة للمطولة التامة، لتفسر ما أبهم منها.
المسألة الثانية: تقطيع متن الحديث من أجل تفريقه في الأبواب:
إذا كان المتن متضمناً لما يمكن أن يستقل عن غيره مما جاء في نفس سياقه، فلا حرج في فصل الجزء المستقل منه ليوضع فيما يناسبه من بابه، فإن السورة من القرآن تستل الآية منها للاستدلال بها في الباب من الأبواب، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث، إذا صح وجود معنى الاستقلال للجزء المقطوع منه.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري: سألت أبا عبد الله (يعني أحمد) عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث؟ قال: " لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث بالحديث كما سمع، ولا يغيره " (573).
قلت: ولا ريب أن اعتبار هذا المعنى الذي ذكره أحمد إنما هو عند أداء الحديث من قبل الراوي، أما الاستدلال منه بقصد الاستدلال فالفسحة فيه أظهر.
والواقع التطبيقي في مصنفات الحديث، خصوصاً تلك التي اعتنت بالأبواب، كثرة وقوع ذلك فيها، و (صحيح البخاري) من أكثرها استعمالاً لذلك.
¥