المعنى الثالث – وهو أخص من المعنى الثاني -: وهو مراتب الأقران في الحفظ والإتقان، في شيخ من شيوخهم، مثل ما ورد في كلامهم على شروط الأئمة أصحاب الصحيحين والسنن، فقسموا أصحاب الزهري وغيره إلى طبقات متفاوتة في الحفظ والإتقان والملازمة، ثم ذكروا من كان يخرج لبعض الطبقات دون بعضها وبينوا شروطهم في الاحتجاج بتلك الطبقات، ورد ذلك في (شروط الأئمة) للحازمي وفي (شرح علل الترمذي) لابن رجب وفي (نكت ابن حجر) و (فتح المغيث) و (تدريب الراوي) وكتب أخرى.
المعنى الرابع: المتعاصرون الذين تقاربت أوقات وفياتهم، واعتاد بعض المؤرخين في بعض كتبهم – منهم الإمام الذهبي في (تاريخ الإسلام) - أن يشترط في ذلك التقارب أن لا يزيد على عشر سنين، وهي عقد من الزمن؛ فالطبقة في ذلك الكتاب تدل على طائفة من المترجمين تقاربت وفياتهم فلم يكن بينها من الفروق أكثر من عشر سنين (2)؛ فمثلاً الطبقة الرابعة والستون من الكتاب مختصة بتراجم الأعلام الذين ماتوا في سنة (631هـ) أو سنة (640هـ)، أو بين هاتين السنتين.
ويظهر أن أهم الأمور التي ألجأت الذهبيَّ إلى هذا الاصطلاح هو عدم وقوفه، على وجه التعيين أو التحديد، على تاريخ وفيات كثير من قدماء المترجَمين ممن توفي قبل القرن الرابع، ولكنه علم ذلك على سبيل التخمين والتقريب، فرأى أن يتدارك هذه العقبة بهذا الترتيب الإجمالي (3).
وبعبارة أخرى فيها زيادة في المعنى أقول: استعمل الذهبي ذلك التقسيم والاصطلاح، لأمرين:
الأول: تبويب الكتاب وتفصيله وترتيبه، أي الترتيب الزمني.
والثاني: تيسُّر إدخال كل مترجم في طبقته، فإن جماعاتٍ من المترجمين، ولا سيما ممن كان من المتقدمين، لا تُعلم سنة وفياتهم على وجه الضبط والتعيين؛ فلو رتب كتابه على السنوات لما تهيأ له ذكر هؤلاء في سنوات معينة، ولاضطره ذلك إلى إدخالهم في بعض السنوات على سبيل الظن والتخمين، أو يذكرهم في ذيول خاصة بهم، أو يصنع غير ذلك، فاختار الذي هو أولى وأليق.
وأما المترجَمون ممن توفي في مطلع القرن الرابع وما بعده، فتواريخ وفياتهم معلومة في الغالب، فلذلك كان الذهبي هنا يرتب التراجم ضمن الطبقة الواحدة على سني الوفيات، سنة فسنة، ولكنه بقي – مع ذلك – يحتاج أحياناً أن يذكر في نهاية الطبقة من لم يقف على تاريخ وفاته من المترجمين؛ وهذا من فوائد ترتيب كتابه على الطبقات العَشرية.
فائدة: التصنيف على الطبقات الزمنية المذكورة صعبٌ لا يتيسر إلا لكبار الحفاظ؛ قال المنذري في (التكملة) (2/ 352 طبعة بغداد) في ابن بصيلة أبي محمد عبد الله بن خلف بن رافع القاهري المتوفى سنة (598هـ):
(أحسن فيه [أي في كتابه الدر المنظم في فضل من سكن المقطم] ما شاء وجعله على الطبقات مع أنه لا يصنف في الطبقات إلا الواثق بحفظه فإن الغلط فيها يكثر ----). انتهى.
وبقي بعد هذه المعاني الأربعة لكلمة (الطبقة) معنيان آخران مجازيان:
أولهما وهو المعنى الخامس: التسميع أي كتابة السماع، ويطلق على ذلك أيضاً (السماع) من غير أن يضاف إليه كلمة (كتابة).
فالطبقة بهذا المعنى هي ما يُكتب في أول أو آخر صفحات الكتاب، أو في أي موضع من صفحاته الأخرى، ببيان أسماء من حضر مجلس الحديث واسم الكاتب، وتُعرض تلك الكتابة على المُسمِع فيوقَّع عليها بخطه ويؤرخها، ويُكتب عادة اسم المكان الذي عقد فيه مجلس السماع، وتكون هذه الطبقة مستنداً في الرواية لمن أثبت اسمه فيها، وشهادة له بالسماع.
لما كان المذكورون في التسميع معدودين طبقةً واحدة، إما لاتفاقهم في السماع من الشيخ، فهم طبقة واحدة في ذلك المسموع، أو لأنهم في الغالب أقران، فهم من طبقة واحدة، أقول: لما كانوا كذلك سُمّوا طبقةً؛ ثم حصل تجوز فأطلقوا هذا الاسم على كتابة أسماء مثل تلك الطبقة على أصولهم أو بعض أصولهم، لأنها يذكر فيها طبقة السامعين ويشهد فيها لسماعها؛ وانظر (التسميع).
تنبيه: الطبقة بهذا المعنى تُجمع على طباق.
وثانيهما، وهو المعنى السادس: وبيانه أن كلمة الطبقة تستعمل أحياناً استعمالاً مجازياً، اسماً للكتاب من كتب التراجم، ولو كان ترتيب ذلك الكتاب على الأسماء لا على الوفَيات.
ونظير ذلك التجوز أن يسمى كتاب التراجم المصنف على حروف المعجم كتاب وفيات.
************************************************** **************************************************
(1) ومنهم من يكتفي في جعل الرجلين من طبقة واحدة بأن يشتركا في اللقي، ولو كان أحدهما شيخاً للآخر، وهو اصطلاح غير جيد لأنه شاذ وموهم.
(2) استعمل الذهبي (الطبقة) في طائفة من كتبه الرجالية المرتبة على الطبقات، لتدل على خصائص اللقيا ونحوها من المعاني، موافقاً في ذلك جمهور علماء الرجال والأسانيد.
(3) انظر تفاصيل هذه المسألة في (الذهبي ومنهجه في كتابه "تاريخ الإسلام") للدكتور بشار عواد معروف.
¥